كشفت وثائق استخبارية مسربة حصلت عليها وكالة “سند” للتحقق الإخباري في شبكة الجزيرة من داخل فرع المخابرات العسكرية في حلب عن رصد النظام السوري المخلوع لتحركات فصائل المعارضة المسلحة، بما فيها هيئة تحرير الشام والفصائل المدعومة من تركيا، قبل اندلاع معركة “ردع العدوان” في ريف حلب الغربي نهاية نوفمبر/تشرين الثاني 2024.
وأظهرت الوثائق، التي يعود تاريخها إلى أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني 2024، أن المخابرات السورية كانت على علم مسبق بالهجوم، حيث رصدت تحركات الفصائل والجيش التركي بدقة متناهية ضمن مناطق سيطرة المعارضة، وهذا يثير تساؤلات عن عمق هذا الاختراق وآلياته.
وتضمنت الوثائق بيانات ميدانية مفصلة، فشملت تقارير عن تحركات الأرتال العسكرية، وتحديد مساراتها اليومية، وتسجيل اجتماعات قيادات الفصائل المعارضة داخل معاقلها في الشمال السوري، إضافة إلى نشاطات لوجستية وتقنية متعلقة بالاتصالات والتنسيق العسكري بين الفصائل.
وأظهرت أن رصد المخابرات السورية امتد إلى الهياكل التنظيمية والعسكرية داخل مناطق المعارضة، مما يثير تساؤلات عن مدى قدرة النظام السوري على رصد العمق العسكري لمناطق المعارضة، وأي وسائل استخبارية استخدمها للوصول إلى هذه المعلومات بالغة الدقة.
تحركات الجيش التركي
تشير الوثائق المسربة إلى أن المخابرات السورية لم تكتفِ برصد الفصائل المعارضة، بل تابعت تحركات الجيش التركي يوميا، داخل مناطق المعارضة، حيث تمكنت من رصد تنقلات الدبابات والمدرعات والمدفعية الميدانية، إضافةً إلى تحرّكات المقاتلين المرافقين للقوافل التركية.
ولم تقتصر المعلومات على تحديد نقاط انطلاق الأرتال، بل شملت أيضا وجهاتها النهائية، ما يشير إلى وجود شبكة مراقبة متقدمة قادرة على تتبع الأرتال من لحظة تحركها حتى وصولها.
ويكشف التحليل الميداني لهذه التحركات أن شبكة المراقبة لم تكن محصورة في نقاط جغرافية محددة، بل امتدت لتشمل مناطق واسعة في ريف حلب الغربي مثل: الأتارب في الوسط، ودارة عزة في الشمال، والجينة في الجنوب إضافة إلى القواعد العسكرية التركية المنتشرة في هذه المناطق.
واللافت في الأمر، أن دقة المعلومات الواردة في التسريبات تعكس آلية رصد متطورة لم تقتصر على الاستطلاع البصري، بل تجاوزته إلى ما يبدو أنه شبكة استخبارية قادرة على نقل معلومات ميدانية متكاملة.

تحليل الرصد الأمني
لفهم طبيعة هذا الرصد، حللنا البيانات الواردة في التسريبات عبر تتبع المسارات اللوجيستية التي استخدمها الجيش التركي والفصائل المتحالفة معه، وأظهرت الخريطة، التي أُعدت بناءً على هذه المعلومات، أن غالبية التحركات العسكرية تتبع محاور لوجيستية ثابتة تمتد من الشمال إلى الجنوب، وتعبر عدة قرى ومناطق إستراتيجية على طول مسارها، مما يشير إلى نمط تحرك مدروس ومنظم يتكرر عبر الطرق نفسها.

اعتمدت عملية التحليل على 3 عوامل رئيسية:
- الأول، تحديد خطوط الرؤية المباشرة من مواقع النظام السوري:
حيث تبيّن أن بعض الأرتال، خاصة في المناطق الجنوبية، يمكن مراقبتها باستخدام المناظير، ما يسمح برصد تحركاتها أثناء عبورها في المساحات المفتوحة، أما في شمال الريف الغربي، فإن التضاريس الوعرة والتلال المرتفعة تحدّ من إمكانية الرصد البصري المباشر، مما يجعل تتبع هذه التحركات أكثر صعوبة.
في المقابل، تتركز القواعد العسكرية التركية في مواقع مرتفعة يصعب مراقبتها تقنيا من مواقع النظام، وهو ما يعزز فرضية وجود شبكة مخبرين تعمل داخل مناطق سيطرة المعارضة، وتنقل المعلومات مباشرة إلى أجهزة الأمن السورية.
- العامل الثاني، تحليل المسافة بين نقاط انطلاق الأرتال ونقاط تمركزها:
سمح ذلك بتحديد الطرق الأكثر ملاءمة لوجيستيا لهذه القوافل العسكرية. نظرا لأن هذه التحركات تشمل معدات ثقيلة مثل الدبابات والمدافع الميدانية، فإن اختيار الطرق المناسبة ضروري لضمان تنقل سلس، ما جعل بعض المسارات أكثر تفضيلا من غيرها.
واللافت أن المخابرات السورية لم تكن تكتفي برصد نقطة انطلاق القوافل فقط، بل امتلكت القدرة على تتبع مسارها حتى وجهتها الأخيرة، ما يشير إلى أن مصادرها الاستخبارية لم تقتصر على نقاط مراقبة ثابتة، بل شملت أيضا مخبرين منتشرين على طول خطوط النقل اللوجيستي.
- العامل الثالث، تتبع نقاط تقاطع الخطوط اللوجيستية:
حيث أظهر تحليل البيانات أن العديد من مسارات الأرتال تتداخل عند محاور إستراتيجية، ما يكشف عن مدى تعقيد العملية الاستخبارية التي نفذها النظام السوري.
ومن أهم هذه المحاور، برزت مدينة الأتارب كنقطة تقاطع رئيسة لجميع الخطوط اللوجيستية للقوات التركية والفصائل المتحالفة معها، وهذا يعكس أهميتها الإستراتيجية كحلقة وصل رئيسة بين القواعد العسكرية التركية في ريف حلب الغربي والجبهات القتالية.
ويشير التحليل الميداني لهذه البيانات إلى أن النظام السوري لم يكن يعتمد فقط على المراقبة التقليدية، بل يبدو أنه استفاد من شبكة استخبارية واسعة داخل مناطق المعارضة، تمكنت من رصد وتتبع النشاطات العسكرية في ريف حلب الغربي.
ورغم أنه لا يمكن التحقق المستقل من دقة المعلومات الواردة في التسريبات في هذه المرحلة، فإن تحليل المسارات والتقاطعات اللوجيستية يشير إلى أن آلية الرصد الاستخباري كانت تعمل وفق نمط منظم ومتواصل، ما يعزز فرضية وجود اختراق أمني فعلي داخل مناطق المعارضة.

هيئة تحرير الشام تحت المراقبة
امتدت عمليات الرصد إلى هيئة تحرير الشام، الفصيل الأبرز في الشمال السوري آنذاك، حيث أظهرت الوثائق أن نشاط الاستخبارات السورية للنظام المخلوع شمل مراقبة دقيقة لتحركات وتخطيطات الهيئة داخل معاقلها في ريف حلب الغربي، إذ وُثقت اجتماعات مغلقة، تجهيز مستودعات ذخيرة، وتنسيق عمليات عسكرية في مناطق حيوية.
ففي خلال أسبوع واحد فقط في بداية نوفمبر/تشرين الثاني 2024، رصدت المخابرات السورية أنشطة للهيئة في ما لا يقل عن 12 موقعا مختلفا في ريف حلب الغربي.
ولم يقتصر الأمر على تتبع التحركات العسكرية، بل امتد ليشمل مراقبة عمليات التجنيد، والتدريب، وتوزيع الذخائر، وحتى التجهيزات الإلكترونية داخل مقرات هيئة تحرير الشام.
على سبيل المثال، وثّقت التقارير تسليم أجهزة تشويش لمقاتلي تحرير الشام في المنطقة، إضافةً إلى تفاصيل عن تجهيز طائرات مسيّرة واختبار أنظمة توجيه في أحد المواقع، كما رُصدت عمليات ضبط الإعدادات والـ”آي بي” (IP) لأجهزة الإشارة واللينكات المستخدمة ضمن محاور القتال.
وجاءت إحدى الفقرات البارزة في الوثيقة تحت عنوان “تحضيرات للمسلحين للقيام بعمل هجومي ضد قواتنا في ريف حلب الغربي”، حيث تناول التقرير استعدادات هيئة تحرير الشام لشن هجوم على مواقع جيش النظام السابق، متضمنا تفاصيل عن التنسيق العسكري بين الفصائل والتجهيزات الميدانية اللازمة.
وبالنظر إلى أن الوثيقة كُتبت قبل أسبوعين فقط من اندلاع معركة “ردع العدوان”، فإن ذلك يشير بوضوح إلى أن المخابرات السورية كانت على دراية مسبقة باستعدادات المعارضة لهجوم عسكري واسع.

اجتماع غازي عنتاب
برز في أحد التقارير رصد المخابرات السورية لاجتماع سري عُقد في مدينة غازي عنتاب التركية في أكتوبر/تشرين الأول 2024، بحضور ضباط من الاستخبارات التركية وقيادات من الجيش الوطني السوري وهيئة تحرير الشام.
وبحسب التقرير، فقد أبلغت الفصائل المدعومة من تركيا المسؤولين الأتراك بنيّتها خوض معركة ضد جيش النظام، لكن الجانب التركي أوضح أنه لن يقدم دعما عسكريا أو لوجيستيا لهذا الهجوم، ولن يتدخل لمساندة الفصائل في المواجهة القادمة. وقد أثار هذا الموقف حالة من الترقب والتوتر داخل أوساط الفصائل، التي كانت تعوّل على دور أنقرة في دعم المعركة، بحسب التقرير.

ورغم أن التسريبات لم تكشف مدى اختراق المخابرات السورية كامل تفاصيل الاجتماع، إلا أنها تؤكد نجاحها في رصد مخرجاته الأساسية، مما يعكس استمرار قدرتها على تتبع ديناميكيات العلاقة بين الفصائل المدعومة من تركيا والتوجهات التركية تجاه معركة ردع العدوان.
وتتماشى تفاصيل الاجتماع المسربة مع ما تم الإعلان عنه في وسائل إعلام دولية حول الموقف التركي في بداية المعركة.
ووفقا لتقرير رويترز، فإن فصائل المعارضة السورية أبلغت تركيا بنيّتها شن هجوم على قوات النظام قبل 6 أشهر من بدء المعركة، واعتقدت أنها حصلت على موافقة ضمنية من أنقرة. ومع ذلك، لم تقدم تركيا أي دعم عسكري مباشر للفصائل، وبدت حريصة على عدم التورط في المواجهة.