لندن- لا يبدو أن حكومة حزب العمال البريطاني استطاعت الخروج من دائرة الاتهام بدعمها حرب الإبادة الجماعية المستمرة في غزة رغم محاولاتها الوقوف على مسافة تفصلها عن حكومة حزب المحافظين السابقة التي وفرت دعما عسكريا غير مسبوق لإسرائيل منذ أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.

وتعالت الأصوات مجددا داخل البرلمان البريطاني مطالبة بإنشاء لجنة تحقيق مستقلة تكشف مدى تورط الحكومات البريطانية في حرب الإبادة بغزة، وتُسائل قانونيا المسؤولين البريطانيين عن قراراتهم وسلوكهم السياسي في التعاطي مع الإبادة الجماعية للفلسطينيين في القطاع، في ظل مخاوف من استئناف إسرائيل عملياتها العسكرية واستخدامها منع وصول المساعدات الإنسانية إلى المدنيين سلاحا للضغط السياسي.

وطالب جيرمي كوربن زعيم حزب العمال السابق والنائب المستقل في البرلمان البريطاني في رسالة وجهها إلى رئيس الحكومة ورفيقه السابق في حزب العمال كير ستارمر بإنشاء لجنة تستنسخ تجربة لجنة تشيلكوت التي أنشأها رئيس الوزراء السابق غوردون براون عام 2009، للتحقيق في الأخطاء التي ارتكبت خلال مشاركة بريطانيا في الغزو الأميركي للعراق عام 2003.

وأضاف كوربن أن التاريخ في غزة يعيد نفسه من جديد، وأن الحكومة البريطانية غير قادرة على إقناع منتقديها بأنها قد استوعبت الدرس من أخطاء سابقاتها خلال الانخراط في الحروب خارج الحدود.

وأشار في رسالته إلى أن الحكومة البريطانية تفرض تعتيما على طبيعة دعمها حرب الإبادة في غزة رغم القلق المتزايد في أوساط الرأي العام البريطاني من ضلوع بلادهم في انتهاكات صارخة للقانون الإنساني الدولي، وإصرار حكومة حزب العمال على الاستمرار في توريد الأسلحة لإسرائيل ورفضها إطلاق وصف “الإبادة الجماعية” على الجرائم الإسرائيلية ضد أهالي القطاع.

ملاحقات قانونية

وهذا الحراك المستجد داخل البرلمان يأتي في سياق مواجهة مستمرة بين الحكومة ومؤسسات حقوقية أمام المحاكم البريطانية لوقف تسليح إسرائيل ومنع تزويدها بقطع غيار لطائرات “إف-35” التي تعتمد عليها طائرات الجيش الإسرائيلي في تنفيذ هجماتها على التجمعات السكنية في القطاع.

ففي أبريل/نيسان الماضي حذّر رأي استشاري قانوني حكومة حزب المحافظين بقيادة ريشي سوناك من المخاطر القانونية لتوريد الأسلحة إلى إسرائيل، لاستخدامها من قبل الجيش الإسرائيلي في ارتكاب جرائم تنتهك القانون الإنساني الدولي، داعيا إلى الحذر من التبعات القضائية التي قد تترتب على ذلك.

وفي محاولة لسد تلك الفجوات القانونية وبعد أسابيع قليلة على توليه منصبه في يوليو/تموز الماضي أعلن رئيس الوزراء البريطاني سحب بعض رخص توريد الأسلحة الموجهة إلى إسرائيل، دون أن يشمل القرار سحب تراخيص توريد قطع غيار لطائرات “إف-35″، مما دفع هيئات حقوقية بريطانية إلى رفع دعوى أمام القضاء البريطاني، في حين واصل رفض إسقاط مصطلح “الإبادة الجماعية” على الانتهاكات الجارية في القطاع ضد الفلسطينيين.

مؤيدة للفلسطينيين في احتجاج أمام شركة أسلحة بريطانية متعددة الجنسيات بلندن (الفرنسية)

ضغوط مستبعدة

بدوره، استبعد رئيس جمعية المحامين العرب في بريطانيا صباح المختار في حديث للجزيرة نت أن تنصاع الحكومة البريطانية للضغوط بإنشاء لجنة تحقيق مستقلة تستقصي دوافع وخلفيات الدعم السخي المقدم لإسرائيل خلالها ارتكابها حرب الإبادة على غزة.

وأشار المختار إلى أن أولوية المسؤولين البريطانيين في اللحظة الراهنة مواصلة دعمهم كلا من تل أبيب وواشنطن في خطط إعادة ترتيب الأوضاع في القطاع وفق رؤية إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وليس الوقوف على أخطاء سياساتهم الخارجية.

وأشار إلى أن هناك إجماعا قانونيا دوليا واسعا على ارتكاب إسرائيل جريمة الإبادة الجماعية ترجمته مذكرات التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير دفاعه السابق، لكن إلزام الحكومة في لندن بوقف دعمها جرائم الإبادة في غزة يحتاج جهدا قانونيا قد يستغرق وقتا لا يبدو أن الفلسطينيين في القطاع يملكون ترفه.

الاستفادة من الماضي

ولا يعيد هذا الجدل بشأن تورط بريطانيا في حرب الإبادة الجماعية بغزة فقط خلافا عصف بصفوف حزب العمال منذ بداية الحرب، بل يستدعي إلى الأذهان أيضا سجالا سياسيا حادا عاشته بريطانيا عشية حرب العراق عام 2003 وامتد لسنوات بشأن وجاهة الأسباب وسلامة الأدلة التي قدمتها الحكومة البريطانية لتبرير تواطئها مع واشنطن لإنهاء نظام حكم الرئيس الراحل صدام حسين.

وبشأن اقتراح تشكيل لجنة على غرار لجنة التحقيق في غزو العراق، يقول المختار إن قرار رئيس الوزراء البريطاني السابق غوردون براون بتشكيل لجنة تشيلكوت جاء بعد 3 محاولات للمناهضين لحرب العراق آنذاك، للمطالبة بتقصي دوافع المشاركة في الغزو والجرائم التي ارتكبتها بريطانيا خلال المعارك.

ولفت المختار إلى أنه حين تمت الموافقة على إنشاء اللجنة تم حصر عملها في إطار تقييم المشاركة البريطانية في الحرب واستخلاص الدروس من الأخطاء التي ارتكبت دون إدانة مرتكبيها.

وفي عام 2009 ترأس القاضي البريطاني السير جون تشيلكوت لجنة التحقيق في قرار المشاركة في حرب العراق عام 2003 بعهد رئيس الوزراء البريطاني توني بلير.

وأصدرت اللجنة تقريرها النهائي عام 2016، وحمّلت فيه بلير مسؤولية التقليل من عواقب غزو العراق، وسوق مبررات مضللة للمشاركة في الحرب، والفشل في تحقيق أهدافها.

لكن، على الرغم من لغة التقرير الصارمة فإنه لم تترتب على النتائج التي خرجت بها لجنة تشيلكوت مساءلة قانونية للمسؤولين البريطانيين، ومن ضمنهم رئيس الوزراء البريطاني آنذاك توني بلير.

المظاهرات في بريطانيا لم تتوقف مطالبة بوقف تسليح إسرائيل خلال حرب غزة (غيتي)

خطوة في طريق طويل

لكن كريس ناينهام الناشط الحقوقي البريطاني نائب رئيس تحالف “أوقفوا الحرب” يرى أن الظروف السياسية المواتية لإخراج لجنة مشابهة للجنة تشيلكوت لم تتشكل بعد، ففي اللحظة الراهنة ليس هناك ضغط سياسي وشعبي كافٍ لدفع الحكومة البريطانية إلى اتخاذ هذا القرار.

واعتبر المتحدث أن تشكيل لجنة على منوال لجنة تشيلكوت سيكون خطوة إلى الأمام بالنظر للانسداد الحاصل، وإصرار الحكومة البريطانية على مواصلة دعمها حملة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة.

ويرى أن اكتفاء تقرير تشيلكوت بتحميل توني بلير مسؤولية تضليل البرلمان البريطاني قبل غزو العراق واستمراره بالانخراط في صناعة السياسات العامة رغم سجله القانوني السيئ أشاع “ثقافة الإفلات من العقاب”، خاصة حين تخاض الحروب خارج الحدود.

ويشدد ناينهام على أن بريطانيا لا توفر فقط دعما دبلوماسيا وسياسيا وعسكريا غير مسبوق لجرائم الإبادة الجماعية في غزة، بل تعد أيضا أحد أهم الداعمين الدوليين لهذه الإبادة.

ويقول إنه رغم الغضب الشعبي الواضح من التورط في انتهاكات القانون الدولي فإن الطبقة السياسية البريطانية تلتزم الصمت في مواجهة هذه المعضلة الأخلاقية، ونادرا ما ترتفع أصوات كالتي عبر عنها زعيم حزب العمال السابق جيرمي كوربن، لتطالب بأن تتحمل الحكومة البريطانية المسؤولية القانونية والأخلاقية لسياساتها وخياراتها الإستراتيجية.

شاركها.
© 2025 خليجي 247. جميع الحقوق محفوظة.