جنوب لبنان – على أطلال منزلها المدمر، وقفت الحاجة زهراء صالح في بلدة راميا الحدودية تتأمل الركام الذي كان يوما بيتها، حيث كبرت وعاشت أجمل لحظات حياتها، لم يبق منه سوى غرفة وحيدة صامدة وسط الخراب شاهدة على سنوات من الذكريات التي طواها الدمار.

بصوت خافت مثقل بالحزن، أشارت بيدها المرتجفة إلى ما تبقى من بيتها، وقالت للجزيرة نت “كل هذا الركام بيتي، هنا كانت الشرفة وهنا غرفة النوم، وهناك كان الصالون”.

وبخطوات مترددة تخترق المساحة التي كانت جدرانها يوما تحمي أسرتها، تعبر فوق حائط منهار باتجاه الغرفة الوحيدة التي لم يلتهمها الدمار بالكامل، حيث الجدران المتشققة وبقايا أثاث متراكم. وتضيف زهراء بصوت يعرب عن المرارة والإصرار في آن واحد “في البداية بكينا كثيرا، دخلنا ولم نجد شيئا، كل ذكرياتنا كانت هنا، رغم كل شيء لن نتخل عن أرضنا ولن نغادرها حتى الموت”.

مرارة وإصرار

يصف الأهالي العائدون إلى قراهم في جنوب لبنان المشهد الذي خلفته الحرب بالزلزال المدمر الذي ضرب المكان من شدة هول الكارثة التي حلت بديارهم، فأينما جالت أعينهم تتناثر آثار الخراب، والأحياء السكنية تحولت إلى أكوام من الركام، والأسواق التي كانت تنبض بالحياة أصبحت مشلولة، في حين ترزح الأراضي الزراعية تحت وطأة التدمير.

وامتد التدمير ليطال البنى التحتية والمحال التجارية والمصانع، مما جعل استعادة الحياة الطبيعية تحديا يفوق الاحتمال.

أهالي بلدة راميا يجوبون شوارعها لتفقد ما تبقى من منازلهم وممتلكاتهم (الجزيرة)

وسط الدمار الذي لفّ بلدة عيتا الشعب، وقف الحاج أبو علي حائرا حيث تتلاشى ملامح المكان أمام عينيه وكأن الأرض انسلخت عن ذاكرتها. لم يعد يعرف أين يقف أو أي زاوية كانت بيته ذات يوم، ينظر حوله يحاول عبثا العثور على معلم مألوف لكن كل شيء طوته يد الحرب، وبدت البلدة كأنها لم تكن يوما سوى كومة من الأنقاض.

بعينين مغرورقتين بالدمع، قال بصوت يثقله الألم للجزيرة نت “لم يبقَ شيء. لا أثر يدلني على بيتي، كيف لي أن أجده وأنا لا أستطيع حتى أن أميز الشارع الذي كنت أسير فيه يوميا؟”.

وتابع بنبرة ثابتة “نحن وُلدنا وكبرنا على هذه الأرض، تزوجنا وأنجبنا أطفالنا فيها، ورأينا أحفادنا يركضون في أزقتها، واليوم أتى العدو ليجردنا من ذكرياتنا، لكن رغم أنوفهم سنعيد بناء كل حجر هدموه لأننا أصحاب الأرض، وهذه الحقيقة لا يمكنهم محوها”.

دمار واسع

من بين الجموع التي توجهت إلى بلدة الضهيرة الحدودية، كان عدي أبو سالم أحد سكان البلدة أول الواصلين. وفي حديثه للجزيرة نت، عبّر عن صدمته من حجم الدمار الذي شاهده في البلدة، مشيرا إلى أنه فاق كل التوقعات.

وقال “رغم أننا كنا نشاهد صورا للدمار على وسائل التواصل الاجتماعي، فإن الوضع كان أكثر كارثية مما تصورناه. البلدة التي كانت تعد مركزا زراعيا حيويا يعتمد عليه السكان بشكل أساسي، تعرضت لدمار واسع، حيث كان حوالي 90% منهم يعتمدون على زراعة التبغ أو القمح أو الزيتون، لكن اليوم لم ينج شيء من آلة التدمير”.

وأضاف أبو سالم “كان هناك منزل مملوك لأخي المقيم في فرنسا الذي أمضى سنوات من العمل الشاق لبنائه، واليوم لم يعد سوى ذكرى. كما دُمر دير للماء الذي كان يشكل مصدر رزق أساسيا للمزارعين في البلدة، لكن أكثر ما يثير الأسى هو تدمير مقبرة أجدادنا التي كانت شاهدة على تاريخ طويل، مما يعكس حقيقة هذا العدوان الذي لا يحترم القيم الإنسانية ولا حقوق الإنسان”.

ووفقا له، تشهد المنطقة خروقا إسرائيلية عديدة، وتساءل “أين السيادة؟ وأين القرار رقم 1701؟ في وقت تم فيه تدمير نحو 400 منزل، ومراكز البلدية، والآبار الارتوازية، والبنية التحتية بشكل كامل، وحتى شجرة الزيتون لم تُستثن منه”.

- حجم الدمار والأضرار التي لحقت بالبنية التحتية حوّلت البلدات الحدودية إلى مناطق غير صالحة للحياة
حجم الدمار الذي لحق بالبنية التحتية حوّل البلدات الحدودية إلى مناطق غير صالحة للحياة (الجزيرة)

عودة صادمة

عاد أهالي البلدات اللبنانية الحدودية بعد نزوح قسري دام نحو عام و4 أشهر ليجدوا أنفسهم أمام أطلال تركتها قوات الاحتلال الإسرائيلي. وعندما انقشع غبار العدوان كانت الصدمة أشد من كل التوقعات، فبدلا من البيوت التي كانت ملاذا لذكرياتهم، اكتشفوا أطلالا وأنقاضا، وبدلا من الأزقة التي شهدت ضحكاتهم، وجدوا ساحات موحشة.

ما تركه جيش الاحتلال لم يكن مجرد خراب عابر، بل مشهدا أشبه بكابوس حقيقي، القذائف والصواريخ، سواء من سلاح الجو أو دبابات الاحتلال، كانت تلاحق البلدات وتقصفها وتنسفها وتدمرها في عملية ممنهجة. أحياء كاملة سويت بالأرض، ومئات المنازل تحولت إلى ركام. ولم تسلم المؤسسات التجارية أو المدارس أو المستشفيات، وحتى أماكن العبادة من مساجد وكنائس وحسينيات.

أما البنية التحتية، فكانت الضحية الكبرى في هذه “المجزرة العمرانية”، حيث تمزقت الطرقات، ودُمرت شبكات المياه والكهرباء والاتصالات بالكامل، كما تهدمت أنظمة الصرف الصحي.

شاركها.
© 2025 خليجي 247. جميع الحقوق محفوظة.