أثار عرض فيلم “هاحيدر” الذي يعالج قضية العنف ضد الأطفال في المدارس الدينية التابعة لليهود المتطرفين الحريديم ضجة كبيرة في إسرائيل، وفتح الفيلم جرحا غائرا في ذاكرة المجتمع الإسرائيلي عن تلك المدارس التي تسيطر عليها تيارات دينية مختلفة.

وتحدث في الفيلم عدد من الطلاب عن تجاربهم الشخصية التي تعرضوا خلالها للاضطهاد والتعذيب والعنف الجسدي على يد معلميهم في تلك المدارس.

ونشرت صحيفة هآرتس تقريرا مطولا عن الفيلم الذي يفضح ما يتعرض له الأطفال الصغار من صنوف التعذيب والانتهاكات الجسدية وحتى الاعتداءات الجنسية على أيدي الحاخامات والمعلمين في المدارس الدينية التابعة للحريديم.

تعليم غير رسمي

تعني كلمة “هاحيدر” باللغة العبرية مدرسة ابتدائية تقليدية، وتدرس فيها أساسيات اليهودية واللغة العبرية، ويتعلم فيها عشرات آلاف الأطفال في نظام التعليم الحريدي المبكر، من سن الخامسة حتى الصف الثامن.

وينقسم التعليم الديني في إسرائيل إلى قسمين:

  • التعليم الحكومي الديني التابع لوزارة التعليم الإسرائيلية.
  • التعليم الديني الحريدي المستقل الذي يتبع حزب أغودات يسرائيل.

ويوفر التيار العام الحريدي التعليم من مرحلة رياض الأطفال (3-5) حتى المدارس الابتدائية (الصفوف 1-8) وينتهي بالمدارس الثانوية الحريدية.

وكان تأسيس حزب شاس وإقامة شبكة التعليم الخاصة به سببا من أسباب تطور هذا التعليم، وقد أضاف تيارًا ثالثًا إلى التعليم الديني.

فقد أسس الحزب سنة 1985 صندوق التعليم “إل همعيان” الذي بدأ نشاطه في تعليم التوراة للبالغين والشبيبة، وفي التربية على العادات والتقاليد اليهودية. كذلك بدأ بإقامة شبكة تعليم واسعة من رياض الأطفال وضمها إلى المعاهد الدينية العليا.

وفي سنة 1993حصلت هذه المؤسسات على اعتراف رسمي كتيار مستقل تحت اسم “معيان هاحينوخ هتورت” أي “نبع التعليم التوراتي”.

وخلال عقد التسعينيات من القرن الماضي حدث تضخم في الجهاز وزيادة كبيرة في عدد الطلاب، وخصوصًا في مؤسسات حزب شاس التي ارتفع فيها عدد الطلاب بشكل كبير.

وتطور جهاز التعليم الحريدي وتفرع، فهو يشـمل مؤسـسـات من الحضـانة إلى الجيل المبكر وإلى المعاهد المخصصة للمتزوجين.

عدد خريجي مدارس الحريديم يتزايد في إسرائيل (غيتي)

ويتشكل جهاز التعليم للذكور من 4 مراحل، هي:

  • تلمود توراة: مماثل للمدرسة الابتدائية.
  • اليشيفاه الصغيرة: مماثلة للمدرسة الثانوية.
  • اليشيفاه الكبيرة (المقدسـة): مماثلة لمعاهد التعليم العالي، ويتعلم فيها الطلاب من عمر (16-17) عامًا إلى سن الزواج.
  • كوليل: معهد للطلاب المتزوجين (أفراخيم).

وبحسب تقرير معهد الديمقراطية الإسرائيلي عن المجتمع الحريدي 2024، فهناك زيادة بنسبة 8.5% في عدد خريجي المدارس الدينية في يناير/كانون الثاني 2024 مقارنة بالشهر نفسه من العام الماضي.

وتشكل هذه الزيادة ضعف معدل النمو الطبيعي للمجتمع الحريدي، وهي الأكبر منذ عام 2015، كما ارتفع عدد خريجي المدارس الدينية والأفراخيم (مدارس دينية للمتزوجين) بنسبة 83%.

وتعدّ “شبكة التعليم المستقل” العامل الأهم والأقدم في التعليم الابتدائي الحريدي، إذ يدرس فيها 43% من الطلاب في سن الابتدائية، بينما يدرس 21% من طلاب المدارس الابتدائية في شبكة تعليم “نبع تعليم التوراة”.

وخلص معهد الديمقراطية الإسرائيلي في تقريره 2024 إلى أن هاتين الشبكتين تتلقيان بموجب القانون تمويلًا بنسبة 100%، وأن شبكات التعليم الديني لا تخضع بشكل عام لإشراف مالي وتربوي فعال، كما أن المؤسسات التابعة لها لا تخضع للقياس في اختبارات وزارة التربية والتعليم.

وأشار تقرير المعهد إلى أن المنهاج الأساسي في شبكات التعليم الديني لا يشير إطلاقا إلى التعليم المدني والديمقراطي في إسرائيل.

عنف مرعب

وبالعودة إلى فيلم “هاحيدر”، فلم تقتصر ردود الأفعال على عرضه على وسائل التواصل الاجتماعي، ولكنها تجاوزتها إلى مناقشات في وسائل الإعلام العبرية المعروفة، وفي المقابل غضت وسائل الإعلام الحريدية وتلك ذات التوجه اليميني الطرف عن التعليق على الفيلم.

ونشرت صحيفة هآرتس بنسختيها العبرية والإنجليزية تقريرين عن الفيلم، إلا أن الصحفي في الصحيفة عيدو ديفيد كوهين ذكر اسم الفيلم في النسخة الإنجليزية (No Child Spared) “لم ينج طفل” ولكن النسخة العبرية من هآرتس ذكرت اسم الفيلم ” هاحيدر” والتي تعني مدرسة ابتدائية دينية.

ويكشف المخرج والمنتج الإسرائيلي ماني فيليب -وهو من أتباع المذهب الحريدي- المعاناة التي تعرض لها في تلك المدارس عندما كان طفلا صغيرا.

ويعاونه في عرض قضيته في الفيلم 11 ضحية لا تزال ذاكرتهم تحتفظ بتجارب مماثلة بشكل أفضل منه، وهم يمثلون لسان حال العديد من الأطفال الذين تم إسكاتهم على مرّ العقود.

وتراوح أوصافهم أمام الكاميرات بين المروعة والقسوة المطلقة، ووفقًا للقصص التي رويت فإن المعلمين الذين يضربون يفتقرون إلى أي خلفية تعليمية، ويُرسلون إلى فصول دراسية فوضوية، ويستخرجون أدوات التعذيب بكثرة، بدعم كامل من إدارات المؤسسة.

ومن بين الضحايا شقيقان هما ناثان (11 عاما) وماور كولبرغ (16 عاما) الذي قال إن معلمه كان يلقمه فلفلا حارا في فمه ويغلقه بشريط لاصق حتى لا يتمكن من البصق، ويشبك يديه خلف ظهره ويقيدهما.

أما ناثان فقال إنهم كانوا يربطون يديه بسلك ويتركونه معلقا فوق كرسي طوال فترة الاستراحة.

Ultra Orthodox Jewish children study in Belz synagogue on April 14, 2011 in Jerusalem, Israel. (Photo by Lior Mizrahi/Getty Images)
الحكومة الإسرائيلية توفر ميزانيات ضخمة للتعليم الديني (غيتي)

طريقة شائعة

وفي تقرير آخر لهآرتس عن الفيلم، اعتبرت جيلي إيزيكوفيتش في مقالها تحت عنوان “هاحيدر.. العنف المرعب كأداة تعليمية” أن هذا النوع من العنف، والذي هو أداة تعليمية في أيدي المعلم والمدير، موجود في أغلب المؤسسات الرسمية، ومعروف تمامًا لدى الآباء، ويمارس بموافقتهم.

وقالت إن ذلك قد يظهر على شكل إساءة نفسية، وقد يتجسد في ضرب الطلاب، حتى الأطفال في سن الخامسة، بألف طريقة إبداعية وإذلالهم أمام الفصل أو المدرسة بأكملها.

وبحسب مقال للكاتب شيرال ديلر نشره موقع مكور ريشون، يقول “بكل شجاعة، يجلس الرجال واحدا تلو الآخر أمام الكاميرا، بعضهم أصغر سنا، يعرّفون أنفسهم بأنهم حريديم، ما يشتركون فيه جميعًا هو أنهم عندما كانوا أطفالًا تعرضوا لصدمة لا يمكن تصورها؛ عندما تعرضوا للضرب والإذلال والتعذيب أثناء الدراسة في هاحيدر”.

ويتابع “إنهم يتحدثون بأصوات مرتجفة عن الضرب الذي تعرضوا له بالقضبان، والمنظر الذي لا يطاق لزميلهم في الفصل وهو يتعرض للضرب المبرح من قبل رجل أكبر سنا، والتعذيب النفسي الذي تعرضوا له من قبل مدير المؤسسة، وهذا مجرد غيض من فيض”.

وبحسب تقرير نشرته القناة 12 الإسرائيلية، فإن العنف في نظام التعليم الحريدي ليس متجذرًا بعمق فحسب، بل يُنظر إليه على أنه قاعدة وطريقة مشروعة للعقاب في المجتمع الحريدي، ففي تلك المؤسسات التعليمية لا يوجد طفل تقريبًا لا يعرف ما هو عنف المعلم.

وتحت عنوان “صفعة على الوجه، حرفيا: كشف النقاب عن العنف الجسدي والنفسي في نظام التعليم الحريدي”، كتب نير وولف في صحيفة يسرائيل هيوم “الفيلم عبارة عن مجموعة مرعبة من العشرات من الشهادات الشخصية التي تكشف عن الأذى المنهجي الذي يلحقه الحاخامات المعلمون بطلابهم، حتى يشعر المرء بالرغبة في الصراخ: كفى”.

ولهذا السبب فإن “هاحيدر يعد وثيقة مؤثرة للغاية عن أبعاد العنف الجسدي والعقلي الذي يُمارس منذ عقود ويستمر حتى يومنا هذا في نظام التعليم الحريدي، من الضرب حتى كسر العظام، والإذلال العلني، والإساءة النفسية لأطفال المدارس الابتدائية، تحت رعاية أساليب تعليمية صارمة عفا عليها الزمن”.

وحش متعاطف مع ماضيه

وفي تحليل واضح وعميق للغاية، يصف أحد الأشخاص الذين أجريت معهم المقابلات الصدمة التي تعرض لها الطلاب والصدمة التي تعرض لها هو نفسه.

وينقل دورون بروش في مقال في معاريف نشر يوم 7 مارس/آذار هذا الشعور بقوله “عندما تضرب حتى الموت أو عندما يضرب الطالب الذي بجانبك وتتناوبون على الجلوس بجانب بعضكم بعضا في الألم، وكطفل صغير ستفعل كل ما بوسعك لإخفاء ألمك وخجلك من الإذلال الذي عانيت منه أمام الفصل بأكمله”.

ويضيف “ستبذل ما بوسعك لإخفاء ما يحدث بداخلك، وعادة عن طريق إغلاق نفسك عن الآخرين، كي لا يروا ما يحدث في الداخل، وتتكيف مع نمط العزلة بنفسك حتى مع تقدمك في السن. ومن دون إرادة، تكبر لتصبح شخصًا غير منفتح على الآخرين، وغير قادر على الشعور بالآخر”.

ويتابع “عندما تقع في قبضة عدم القدرة على الشعور، فإنك تحافظ على علاقات متضررة مع شريك حياتك، ومع أطفالك، وتصبح أنت نفسك نسخة طبق الأصل من الوحش الذي ضربك في الفصل، وستسهم في تمرير الرسالة المشوهة عبر الأجيال”.

ويقول إن “هذا التحليل النفسي الرائع هو ذروة الفيلم المؤلمة، والأسوأ من ذلك هو القناعة الأكيدة أن دولة إسرائيل لن تفعل أي شيء لوقف هذا الأذى الذي يلحق بالأطفال في التعليم اليهودي الحريدي”.

سادية وسفك دماء

ويشير مخرج الفيلم ماني فيليب إلى أنه لم يفكر في العنف الذي تعرض له شخصيا حتى نشر شقيقه، الذي كان يدعى الأمير الصغير فيليب، منشورًا على فيسبوك روى فيه بالتفصيل كيف تعرض للضرب على يد حاخام في مدرسة ابتدائية.

وفي وقت قصير، أثار هذا الوصف موجة من الشهادات الإضافية تحت وسم “هذه طفولتي” الذي فتح صندوق الفضائح، فلقد كانت هناك مئات الشهادات عن العنف”.

يقول الأمير فيليب الصغير إن المعلمين والحاخامات الذين ضربوه لم يحاسبوا قط على ذلك، وقد قدم قائمة بالحاخامات بعضهم توفي وبعضهم لا يزال يشغل مناصب تعليمية.

ويقول عن أحد هؤلاء الحاخامات “لقد ضربني حتى الموت. لقد كان ساديا حقيقيا وكان يتسبب في سفك الدماء”، وعن آخر يقول “فتح وجهي قرب عيني، وضربني حتى كسر نظارتي”.

Jewish settlers under the protection of Israeli forces raid Hebron- - HEBRON, WEST BANK - SEPTEMBER 14: A group of Jewish settlers under the protection of Israeli soldiers raids the Old City area of Hebron, West Bank on September 14, 2024.
مستوطنون من خريجي المدارس الدينية يقتحمون البلدة القديمة في الخليل تحت حماية جنود الاحتلال (الأناضول)

حماية رسمية

ويمثل أعضاء الكنيست من الأحزاب الحريدية مفصلا مهما في حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو حيث يمتلك حزب شاس 12 مقعدا، في حين يملك حزب يهدوت هتوراة 9 مقاعد. ووفقا للاتفاقيات الائتلافية، يحق للأحزاب الحريدية تلقي الدعم من الحكومة للتعليم الحريدي.

وكشفت صحيفة “كالكاليست” في ديسمبر/كانون الأول 2024 أن مشروع ميزانية الحكومة الإسرائيلية لعام 2025 يتضمن “تقنيات مالية تمويهية” تهدف إلى تخصيص مليارات الشواكل لمؤسسات التعليم الديني، رغم ما يبدو على السطح من تخفيضات في ميزانياتها.

وتشير التقارير إلى أن هذه التخفيضات ظاهرية فقط، إذ سيتم استكمال العجز من خلال الأموال الائتلافية التي تبلغ قيمتها الإجمالية 5.4 مليارات شيكل (نحو 1.4 مليار دولار).

وفي ميزانية 2025 أُدرجت ميزانية شبكة التعليم التابعة لحزب شاس بقيمة 0.86 مليار شيكل (نحو 224 مليون دولار) بدلا من 1.25 مليار شيكل (نحو 325 مليون دولار) في العام الماضي. ومع ذلك، أوضح وزير المالية بتسلئيل سموتريتش نيته إضافة 600 مليون شيكل (نحو 156 مليون دولار) كزيادة لأجور المعلمين في هذه الشبكة، وهو ما اعتُبر أولوية غير مبررة في وقت الحرب، بحسب كالكاليست.

أما شبكة التعليم المستقلة التابعة لأغودات يسرائيل الدينية، فقد خُصصت لها ميزانية قدرها 1.64 مليار شيكل (نحو 427 مليون دولار) مقارنة بملياري شيكل (نحو 520 مليون دولار) في العام السابق.

شاركها.
© 2025 خليجي 247. جميع الحقوق محفوظة.