القاهرة- وسط توترات إقليمية ودولية غير مسبوقة، أطلق الجيشان المصري والصيني مناورات جوية مشتركة تُعد الأولى من نوعها، باسم “نسور الحضارة 2025″، بمشاركة آليات ومعدات ومقاتلات متعددة المهمات.
وتُجرى المناورات في قاعدة عسكرية مصرية لم يفصح عنها، من منتصف أبريل/نيسان حتى أوائل مايو/أيار المقبل. وقد انطلقت فعلا أولى طلعاتها التدريبية يوم الجمعة الماضي.
وفي حين تعد “نسور الحضارة” أول تدريب جوي مشترك من نوعه بين البلدين، إلا أن الجانبين أجريا -أكثر من مرة- “تدريبات بحرية عابرة”، وهي تمرينات عابرة وغير مجدولة مسبقًا.
ما أهداف ورسائل مصر من مناوراتها الجوية الأولى مع الصين؟
ثمة مجموعة من الأهداف والرسائل المشتركة، يطرحها اللواء الدكتور سيد غنيم -زميل الأكاديمية العسكرية للدراسات العليا والإستراتيجية، والأستاذ الزائر بالناتو والأكاديمية العسكرية ببروكسل– لهذه المناورات، أبرزها:
- باعتبار القاهرة الحليف الرئيسي لواشنطن خارج الناتو، فهي تجري مناورة جوية مع “عدو أميركا المتصاعد”، وكأنها تساوي بين شراكاتها الإستراتيجية مع الحليف القديم الأهم ومع شريك واعد لا يقل أهمية.
- كلا البلدين يسعى لإظهار المناورة وكأنها تمثل علامة في التكامل العسكري العملي، بما يتيح منصة مشتركة لتحسين تنسيق القتال الجوي، وتقييم المعدات في الظروف التشغيلية، وبناء الألفة المؤسسية بين قواتهما.
هل تحمل المناورات رسائل إلى طرف أو أطراف محددة؟
يقول اللواء سمير فرج، الخبير العسكري ومدير إدارة الشؤون المعنوية الأسبق بالجيش المصري، إن المناورات كان مخططا لها منذ بداية العام، وفي حين يشدد على أنها ليست موجهة لأي طرف حاليا، وغير مرتبطة بأحداث إقليمية على غرار الحرب في غزة، يؤكد أنها تبقى “رسالة إلى من يهمه الأمر”.
ويوضح أنها تستمد أهميتها من كونها:
- تعد شكلا من أشكال “الردع المعنوي”؛ لتظهر قوة مصر وقدرتها على ردع أي تهديد محتمل.
- تجري مع مقاتلات تنتمي لمدرسة عسكرية مختلفة عن المدارس الغربية.
- تشمل مهارات إعادة الإمداد والتموين، وهي قدرات مطلوبة في المرحلة الراهنة.
- رفع الجاهزية العسكرية، خاصة تجاه سيناريوهات محتملة في العمق الأفريقي أو حوض نهر النيل.
ويتفق الخبير العسكري والإستراتيجي العميد سمير راغب، مع القول السابق، إن المناورات لا تستهدف طرفا بعينه، ويضيف أنها تعكس توجها لإعادة التوازن في العلاقات العسكرية، كما تتيح لمصر اختبار المقاتلات الصينية في بيئة قتالية واقعية، من حيث:
- قدرتها على المناورة.
- والإقلاع والهبوط في أقصر مدى وممر.
- واستخدام أنظمة الرصد والحرب الإلكترونية.
- وكفاءة التسليح الذكي.
ويعتقد راغب أن الصين تمتلك ميزة نسبية في تحديث المعدات وتطوير التكتيكات القتالية، ما يكسب الدول المتعاونة معها خبرات قتالية حديثة ومتقدمة.
مشاهد من التدريب الجوي المصري-الصيني المشترك “نسور الحضارة 2025″، الذي ينفذ في إحدى القواعد الجوية المصرية.
تظهر اللقطات مشاركة سلاح الجو الصيني بمقاتلات “جيان J-10” بنسختيها الأحدث “C” والأقدم “S”، إضافة إلى طائرة الإنذار المبكر والقيادة والسيطرة KJ-500، وطائرة التزود… pic.twitter.com/iPHpPtJdqA
— Mahmoud Gamal (@mahmouedgamal44) April 20, 2025
كيف تعزز المناورات أهداف مصر في تنويع ترسانتها العسكرية؟
يشدد اللواء غنيم على أن المناورات تكرّس توجه مصر نحو تنويع مصادر التسليح، بعيدا عن الاعتماد التقليدي على الولايات المتحدة أو روسيا، خصوصا مع تراجع الثقة بهما في ضوء الحرب الأوكرانية، والدعم الأميركي غير المشروط لإسرائيل.
ويقارن بين مرونة الصين البعيدة عن الحساسيات السياسية وعدم الثقة، وتردد شركاء آخرين، مثل فرنسا، التي خضعت سابقا لضغوطات إسرائيلية حالت دون تزويد مصر بصواريخ متقدمة ضمن صفقة مقاتلات “الرافال”.
ويرى أن المناورة تتيح فرصة واقعية لاختبار الطائرات الصينية، تمهيدا لاحتمال التعاقد عليها مستقبلا دون قيود سياسية أو شروط غير مرغوب فيها.
يعزز ذلك، حسب اللواء غنيم، إستراتيجية مصر الأوسع في سياستها الخارجية القائمة على عدم الانحياز، بما يسمح لها بالتحوط من الاعتماد المفرط على أي كتلة جيوسياسية واحدة، مع إمكانية نقل التكنولوجيا والتجميع وربما التصنيع مستقبلا.
ويلتقط اللواء سمير فرج الخيط ذاته، موضحا أن المناورات توفر الفرصة لمصر بأن تعاين على أرض الواقع الأسلحة الصينية، وهي تقاتل وتشتبك في ميدان التدريب.
ويتفق معه في الرأي، العميد سمير راغب، مشيرا إلى أن المناورات المشتركة تعد عادة مقدمة لتعاون تسليحي وتعاقدات عسكرية؛ وتسمح باختبار ومعاينة مواصفات الأسلحة ميدانيا عن قرب وليس فقط من خلال المعارض أو الكتيبات أو العروض النظرية أو الملحقين العسكريين.
هل تمهد المناورات لاقتناء مصر مقاتلات “تشنغدو-جي10” الصينية؟
وعن صفقة المقاتلات الصينية متعددة المهام “تشنغدو-جي10” التي قيل إن مصر تفكر في اقتنائها -دون إعلان رسمي- أكد اللواء فرج عدم حدوث أي مشاورات بشأنها، مع ذلك يرى أن المناورات تستكشف ما يملكه الجانب الصيني من أسلحة ومقاتلات، إذا لجأت مصر إليها مستقبلا.
في حين يرى العميد راغب، أن هذه المقاتلات مرشحة بقوة بديلا محتملا لمقاتلات “إف-16″؛ كونها تنفذ مهام مشابهة للمقاتلة الأميركية، ووجودها ضمن المناورات الحالية قد يعكس ذلك التوجه، لكن هذا لا يعني اتخاذ قرار نهائي بشرائها، مشيرا إلى أن بلاده سبق أن تدربت مع الفرنسيين قبل التعاقد على “الرافال”، ومع الروس على “ميغ 29” التي تعادل المقاتلة الصينية.
ويوضح أن مصر تبحث عن بديل مستقبلي لمقاتلات “إف-16″، مع توقف إنتاجها، سواء الجيل الرابع منها أو الجيل الرابع المطوّر، وعليه لم يعد ممكنا زيادة عددها ضمن الأسطول المصري.
وفي السياق نفسه، يرى اللواء غنيم، أن مصر تسعى لتحقيق هدف عسكري هام من هذه المناورات، يتمثل في تقييم قدرات الحرب الإلكترونية وأنظمة دمج الاستشعار لطائرات “تشنغدو-جي10” الصينية، إضافة إلى إمكانات الرفع الإستراتيجي لطائرات النقل الصينية “واي-20”.
وشدد على أنه أمر بالغ الأهمية في ظل سعي القاهرة إلى تعزيز قدراتها على الاستكشاف والانتشار العسكري السريع، كما تُسهم هذه المناورات في تعزيز جاهزية مصر وتنسيق القوات المشتركة، وهو أمر ضروري بالنظر إلى البيئة الأمنية المتقلبة الممتدة من ليبيا إلى ممر البحر الأحمر والقرن الأفريقي.
ماذا عن التداعيات على العلاقات المصرية الأميركية والتوازنات الإقليمية؟
بحسب العميد راغب، فإنه لا يخفى أن العلاقات المصرية الأميركية شهدت مراحل من المد والجزر، وكان التراجع في عقود التسليح الأميركي سببا في تأويلات سياسية كثيرة، خاصة مع تنويع مصر مصادر التسليح شرقا وغربا.
ويشدد على أن مصر تدير علاقاتها بما يخدم مصالحها، دون مناكفات، مشيرا إلى أن الصين أصبحت الشريك التجاري الأول لبلاده، ولديها استعداد ورغبة في نقل وتوطين التكنولوجيا لغيرها، على عكس الولايات المتحدة التي تضيّق على شركائها.
ويرجح العميد راغب تراجع علاقات التسليح المصرية بواشنطن لصالح بكين، التي تُعد خيارا مرنا مقارنة بموسكو، خاصة في ظل العقوبات المشددة المفروضة على الأخيرة، كما حدث أخيرا في صفقة مقاتلات “سوخوي” الروسية.
كما يشدد على أهمية الشراكات المتبادلة مع مصر، في ضوء اعتبار القاهرة بوابة لدخول أي سلاح جديد إلى الأسواق العربية والأفريقية، كما حدث مع “الرافال”.
بدوره، يستشرف اللواء سيد غنيم، تأثر العلاقات المصرية الأميركية “تدريجيا”؛ خصوصا مع تزايد التعاون العسكري مع بكين، في ظل توجهات إدارة ترامب التي تجبر الحلفاء على الاختيار بين بلاده والصين.
وأكد أن أي صفقة مصرية مرتقبة للمقاتلات الصينية، بديلا محتملا لأسراب “إف-16” الأميركية، قد تؤثر سلبا على الشراكة العسكرية بين البلدين، خصوصا وأن المبيعات العسكرية إحدى ركائز التعاون المصري الأميركي.
وعن الأبعاد الإقليمية للمناورات، يرى أن إسرائيل ترى في التحركات المصرية، ومنها التعاون مع الصين، محاولة لإعادة التوازن العسكري الإقليمي، خاصة بعد تفوق تل أبيب في مواجهات مع إيران وأذرعها بالمنطقة.
أما اللواء سمير فرج، فيرجح عدم تأثر العلاقات المصرية الأميركية بمشاركة مصر في تدريبات مع الصين؛ بعد أن استوعبت الإدارة الأميركية سياسة تنويع مصادر التسليح المصرية وقدرة مصر على المناورة.
إجمالا، يتفق الخبراء العسكريون على أن هذه المناورات “بالغة الأهمية”، وتحمل رسائل “قد تبدو مبطنة” إلى أطراف مختلفة منها واشنطن وتل أبيب، لا سيما ما يتعلق بـ”الجاهزية العسكرية” والتأكيد على أن مصر تعمل على تنويع وتعزيز تحالفاتها وترسانتها، بالنظر إلى البيئة الأمنية المتقلبة الممتدة من ليبيا إلى ممر البحر الأحمر وحوض النيل والقرن الأفريقي.