طهران- في ضوء وساطة عُمانية هادئة، تصل المفاوضات النووية بين واشنطن وطهران إلى منعطف صعب، جعل أنظار الإيرانيين تترقب مواقف المرشد الأعلى علي خامنئي حيال المسار الدبلوماسي المتواصل، حيث اعتادت الأوساط السياسية تحليل ما تخفية خطاباته من إستراتيجيات تشكل نواة لسياسة إيران الخارجية.

وإذ إن مواقف خامنئي طالما رسمت خارطة طريق لوفود طهران التفاوضية التي خاضت مباحثات مع الحكومات الغربية المتعاقبة طوال أكثر من عقدين من أجل التوصل إلى حلول سياسية لملفها النووي، تسعى الجزيرة نت إلى تقصّي مواقف المرشد تجاه المباحثات الراهنة، وقراءة ما بين سطور خطاباته التي تعتقد النخبة الإيرانية أنها تعكس توازنا دقيقا بين الأوراق التفاوضية والرهان على رفع العقوبات.

يرى المتابع لخطابات المرشد الإيراني منذ أبريل/نيسان الماضي بوضوح أنه تجنب التطرق إلى المفاوضات النووية ما عدا في محطاتها المفصلية، ليكون حارسا للخطوط الحمراء التي يراها توازي بين قدرة بلاده الردعية وضمان رفع العقوبات الأميركية عن الاقتصاد الوطني.

مرونة تكتيكية

فبعد طرحه معادلة “لا حرب ولا تفاوض” عقب انسحاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب خلال ولايته السابقة من الاتفاق النووي لعام 2015، والتي حكمت هذه الإستراتيجية العلاقة بين واشنطن وطهران خلال السنوات الماضية، علق خامنئي -في بادئ الأمر- على رغبة حكومة الرئيس مسعود بزشكيان بالتفاوض ودعوة البيت الأبيض لذلك بالقول إن إجراء محادثات مع الولايات المتحدة خطوة “ليست ذكية أو حكيمة أو مشرفة”.

وأوضح خامنئي قبيل انطلاق المفاوضات النووية بوساطة عمانية أن التفاوض مع واشنطن لن يؤثر على حل المشاكل في إيران، وقال “قدمنا تنازلات سخية في الاتفاق النووي لكن الأميركيين لم يلتزموا به وألغاه الرئيس دونالد ترامب”.

وعلى غرار مواقفه قبيل المباحثات التي توّجت بتوقيع الاتفاق النووي عام 2015، لم يخف خامنئي تشاؤمه بنتيجة المسار الدبلوماسي الراهن، لكنه حرص على عدم غلق الباب بوجه الحكومة التي ترى في الحوار سبيلا لدفع الخطر وضمان مصالحها الوطنية، فجاءت تصريحاته مزيجا من “الممانعة” و”المرونة التكتيكية”، فركزت أولاها علی رفض التفاوض المباشر والتشكيك في النتائج مع إبقاء الباب مفتوحا لرفع العقوبات.

وعقب الجولة الأولى، ولدى استقبال مسؤولي السلطات الثلاث في الشهر الماضي، علق المرشد الإيراني بكلمات معدودة علی المسار الدبلوماسي بالقول “إننا لا ننظر إلى هذه المفاوضات بتفاؤل مفرط ولا بتشاؤم مفرط”، مستدركا “أننا متشائمون جدا بالطرف الآخر، لكننا متفائلون بقدراتنا”، وطالب بعدم ربط قضايا البلاد بنتيجة المفاوضات.

خطوط حمراء

وفي ضوء التشكيك بمصداقية الطرف المقابل، حرص خامنئي على رسم خطوط حمراء لرفع رصيد وفد بلاده في المفاوضات النووية، مؤكدا في كلماته “ضرورة رفع العقوبات الجائرة بشكل عملي وقابل للتحقق” عن الشعب الإيراني، مذكرا الرأي العام -بين الفينة والأخرى- بانسحاب إدارة ترامب من الاتفاق النووي السابق ونقض القوى الغربية تعهداتها فيه، وقد رفض أكثر من مرة أي اتفاق من دون ضمانات.

وبعد أن ظهر -كعادته- أنه غير راغب بالتطرق إلى المفاوضات في خطاباته الدورية وقد يكون ذلك نابعا من ثقته بوفد بلاده التفاوضي أو حرصا منه علی عدم التدخل في شؤون السلطة التنفيذية، شكّل اصطدام المباحثات بعقبة المطالب الأميركية المتمثلة في “صفر تخصيب” مبررا ليجدد تأكيده ضرورة الاحتفاظ بالمكاسب النووية وعلى رأسها تقنية التخصيب داخل إيران.

وفي كلمته بمناسبة الذكرى الأولى لسقوط المروحية الرئاسية التي أودت بحياة الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته حسين أمير عبد اللهيان العام الماضي، انتقد خامنئي، في 20 من الشهر الجاري، المطالب الأميركية بأن تمتنع طهران عن تخصيب اليورانيوم، معتبرا أنها “مبالغ فيها ووقحة”، مؤكدا أنه على واشنطن التوقف عن طرح مثل هذه المطالب.

وإذ أبدى المرشد الإيراني شكوكا في أن تؤدي المباحثات مع الولايات المتحدة بشأن البرنامج النووي الإيراني إلى أي نتيجة، تطفو تصريحاته من جديد مثل “ظل فوق طاولة التفاوض” عبر رسمه خطوطا حمراء تحوّل مبدأ التخصيب إلى رهان لا تنازل عنه، ليعلن إثر ذلك وزير الخارجية عباس عراقجي أن تكرار الحديث عن وقف التخصيب سيؤدي إلى طي ملف المفاوضات.

وبذلك، هاجم خامنئي “وقاحة المطلب الأميركي”، ونوه إلى استقلال طهران في اتخاذ قراراتها وأنها “لا تنتظر إذن أحد”، وأن التخصيب “إستراتيجية وطنية”، فقال إن “قولهم لن نسمح لإيران بالتخصيب هو تمادٍ وقح. لا أحد ينتظر إذن هذا وذاك. إن لدى الجمهورية الإسلامية سياسة واضحة، ولها منهجها”.

بين السطور

وعند التوقف أمام مواقف خامنئي حيال المفاوضات النووية، يلمس الباحث السياسي مصدق مصدق بور وجود أبعاد غير معلنة لتوجيه رسائل إلى الداخل والخارج، فتارة يطمئن المرشد الأوساط السياسية في طهران وجمهور “محور المقاومة” في منطقة غرب آسيا بأن ما تقوم به حكومة بزشكيان إنما قرار اتخذته المؤسسات السيادية، وأنه يثق بالوفد المفاوض ولا خوف على الإنجازات النووية التي تشكل عامل ردع أمام التهديدات الصهيوأميركية.

وتارة أخرى، يبرر المرشد الإيراني للرأي العام العالمي سبب الخشية الإيرانية من تكرار تجربة عام 2018 حيث انسحب ترامب بشكل أحادي من الاتفاق النووي، وفق مصدق بور الذي يعتقد -في حديث للجزيرة نت- أنه يتعمد تفريغ الضغط الدولي من خلال طمأنته بأن طهران لن تكون أول من يغادر طاولة المفاوضات لكنها لن تفرط بحقوق شعبها، ليكرس مبدأ مفاده بأن التقدم التقني للبرنامج النووي غير قابل للتصفير حتى بموجب اتفاق جديد.

وتابع المتحدث نفسه أنه بينما يسعى خامنئي لإبراز الاستقلال في خطاب المؤسسة الدينية والدبلوماسية الرسمية، يلقي الكرة في ملعب أميركا ليحملها مسؤولية أي فشل محتمل للمفاوضات بسبب مطالبها التعجيزية، بما قد يضمن لطهران شراء الوقت لتفويت فرصة تفعيل آلية الزناد على الجانب الأوروبي، وذلك في ظل استمرار المفاوضات بوساطة عمانية.

من ناحيته، يرى الباحث السياسي سعيد شاوردي أن مواقف خامنئي تصدر في سياق معادلة دقيقة توازن بين استخدام المكتسبات النووية كورقة ضغط مقابل رفع العقوبات عن الاقتصاد الإيراني كاعتراف من القوى الكبرى عامة والولايات المتحدة على وجه الخصوص التي لطالما عزفت على وتر “خطورة السياسات الإيرانية على الأمن العالمي” وفضح مقامرات “الكيان الصهيوني” الذي يلوح يوميا بعزمه مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية.

ويتابع شاوردي -في حديثه للجزيرة نت- أن إصرار خامنئي على رفع العقوبات “القابل للتحقق” إلى جانب المحافظة على المكتسبات النووية ليس مجرد مطالب فنية بل إسترتيجية لشرعنة سياسات طهران الخارجية، واختبار لقدرتها على كسر الحصار ودمج البلاد في الاقتصاد العالمي.

شاركها.
© 2025 خليجي 247. جميع الحقوق محفوظة.