من داخل حافلة متوقفة إلى جوار ركام مبنى مدمر شمال قطاع غزة، يعيش المعلم طلال بن ربيع أيامه، نازح فقد كل شيء، وبقي وحيدا في مواجهة واقع دموي لا يرحم.
وكان هذا المعلم -المعروف بين تلاميذه بـ”أبو الأمجد”- يحلم بتنشئة جيل من الأطفال الفلسطينيين يؤمن بالسلام، ويسعى للإنجاز وسط الفوضى، لكنّ الحرب الأخيرة قطعت ذلك الحلم من جذوره، ودفنته تحت أنقاض البيوت التي انهارت على أصحابها.

وفي أحد أيام التصعيد، وبينما كان طلال يحتمي داخل حافلته المركونة قرب أحد منازل النزوح، سقط صاروخ على المنزل المجاور.
ولم يصب طلال إصابة مباشرة، لكن الحطام غطّى السيارات المحيطة، وأدى إلى مقتل وإصابة من كانوا بالقرب منه.
ويتحدث المعلم عن المشهد بذهول: أجساد ممزقة، أطراف مبتورة، ووجوه لم تعد تُعرف، واصفا اللحظة بأنها “خارج الزمن”. ولم يكن يدرك إن كان حيا أم مجرد ناج بانتظار مصير مؤجل.
ويستعيد طلال المشهد مرات، ويقول إن ما يحدث اليوم في غزة يتجاوز حدود المنطق، ويجسد حديثا نبويا عن زمن تختلط فيه المعايير، يُكذّب فيه الصادق ويُصدّق الكاذب، ويؤتمن فيه الخائن ويُخوّن الأمين.
ولكن رغم كل شيء، لا يفكر الأستاذ طلال في مغادرة القطاع.
“لن أهاجر” يقولها بثبات، وهو الذي فقد بيته وأصدقاءه وتلاميذه، لكنه يتمسك بتراب المكان الذي عاش فيه كل شيء. وبالنسبة له، الرحيل ليس خيارا، بل تنازل عن معنى الصمود.
وفي غزة، لم يعد الموت هو النهاية، بل بات تفصيلا يوميا في حياة الناس.
أما طلال، فليس مجرد معلم نجا من القصف، بل شهادة حيّة على جيل يحاول أن يبقى، رغم كل ما يُراد له أن ينكسر.