غزة- بجسد هزيل ووجه شاحب، استلقى المريض الثلاثيني فادي أبو ارجيلة على واحد من أجهزة قليلة لغسيل الكلى في مجمع ناصر الطبي بمدينة خان يونس جنوب قطاع غزة.

وفي ظل مجاعة تفتك بالغزيين، يكابد أبو ارجيلة (32 عاما) في الحصول على أي طعام يفترض أن يتناوله قبل أو أثناء خضوعه لجلسة الغسيل، حسب البروتوكول الطبي.

وتتفشى في القطاع مجاعة حادة، ناجمة عن الحصار المشدد وإغلاق سلطات الاحتلال الإسرائيلي المعابر كافة منذ 2 مارس/آذار الماضي، وتمنع بموجب ذلك إدخال المساعدات الإنسانية والبضائع التجارية، حتى بات الحصول على وجبة طعام بالنسبة للأغلبية من بين زهاء مليونين و200 ألف فلسطيني مهمة يومية شاقة ومعقدة.

ضغط على المستشفيات بسبب تأثير المجاعة على الأطفال والنساء (الجزيرة)

مرض وجوع

منذ اكتشاف إصابته بمرض الفشل الكلوي قبل بضعة أعوام، لم تمر بالمريض أبو ارجيلة فترة أشد قسوة مما يواجهه هذه الأيام، وبلغ الخوف منه مبلغا يجعله قلقا من الموت جوعا أكثر من الموت مرضا.

“أشعر بأنني قد أسقط منهارا في أي لحظة”. هذا ما يقوله أبو ارجيلة للجزيرة نت والحزن والقلق باديان في عينيه على زوجته وطفله اللذين يقيم معهما في خيمة ببلدة بني سهيلا، وقد دمرت قوات الاحتلال منزله في بلدة خزاعة، المحاذية للسياج الأمني الإسرائيلي شرقي مدينة خان يونس.

قبل اندلاع الحرب عقب عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، كان أبو ارجيلة يعيش حياة مستقرة، رغم مرضه وآلامه. وقال “الحرب ليست قتلا بالصواريخ فقط، نحن نموت في غزة ألف مرة باليوم، خوفا وجوعا، وهي أشد وقعا علينا كمرضى لعدم توفر احتياجاتنا البسيطة من الطعام والأدوية والمياه النظيفة”.

وتقول وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) إن أغلب سكان قطاع غزة يعانون من انعدام أمن غذائي حاد. ووفقا لهيئات رسمية ومحلية فلسطينية، فإن الأمر أشد قسوة على الفئات الهشّة من الأطفال والنساء والمرضى.

أما أبو ارجيلة فيقول “كان كل شيء متاحا قبل الحرب رغم الفقر والبطالة والأسعار في المتناول (…) وكانت لدينا مؤسسات خيرية تساعد الفقراء والمرضى والمحتاجين (…) أما اليوم فنعيش في سجن كبير، ونحرم من كل شيء، ونواجه الموت في كل لحظة بسبب الجوع والقتل”.

ويشير الرجل المريض إلى الأسواق الخاوية و”الأسعار الجنونية”. ويضيف “نفتقد كل شيء حتى الأكامول (مسكّن أوجاع) الذي نتناوله بديلا عن أدوية أخرى مفقودة بالنسبة لمرضى الكلى، وقد ارتفع سعر الشريط الواحد (10 حبات) من شيكل إلى 10 شواكل (2.5 دولار)”.

إجهاض وولادات مبكرة

وتخيم المجاعة على جميع الأقسام في مستشفيات القطاع، وتبدو ظاهرة على وجوه المرضى وعلى الأسرّة وفي غرف العمليات، وليس بعيدا عن أبو ارجيلة في قسم غسيل الكلى كانت الثلاثينية منال خالد تنتظر دورها في مستشفى النساء والتوليد بمجمع ناصر الطبي للمراجعة الدورية، وبدت مثقلة بحملها في الشهر السابع.

مرت منال (31 عاما) بتجربة الحمل والولادة 6 مرات من قبل، غير أنها تعتبر حملها هذه المرة في وظل الحرب والمجاعة “الأصعب”، وتقول للجزيرة نت “لا أجد طعاما أتناوله، وحتى المياه النظيفة غير متوفرة، وأشعر بالقلق على الجنين والجوع يتسلل له داخل الرحم وقبل أن يرى النور”.

هذه الأم الحامل نازحة من مدينة رفح وتقيم في خيمة بمنطقة المواصي غربي مدينة خان يونس، وقد أظهرت الفحوص الطبية أنها تعاني من انخفاض في وزنها، وانعكس ذلك على جنينها الذي بينت الصور التلفزيونية أن حجمه أصغر من الحجم الافتراضي له في مثل هذا الوقت من الحمل.

خسرت هذه السيدة نحو 3 كيلوغرامات في الفترة الأخيرة، التي تصفها بأنها الأصعب والأقسى منذ اندلاع الحرب، حيث لم يعد أي شيء متوفرا في الأسواق، وقطعت المساعدات تماما، وقد استهلكت كل ما كان لديها في خيمتها من طحين ومواد معلبة، وبات اعتمادها وأسرتها على كمية قليلة من شوربة العدس أو المعكرونة التي توفرها تكية خيرية مجاورة ومهددة بالتوقف في أية لحظة.

وتخشى من اضطرارها للولادة المبكرة أو القيصرية، وهي حالات باتت منتشرة في مستشفيات غزة، ويرجعها اختصاصي النساء والتوليد الدكتور محمد بربخ للمجاعة وسوء التغذية لدى الحوامل.

ويقول للجزيرة نت إن المجاعة المتفشية في القطاع جراء الحصار المشدد للشهر الثالث على التوالي تسببت أيضا في ارتفاع حالات الإجهاض، وولادة أجنة بأوزان قليلة تستدعي دخولهم الحضانات.

الدكتور عز الدين شاهين المجاعة أثرت على القرارات والتدخلات الجراحية وفتكت بالجرحى والمرضى وحتى الكادر الطبي-رائد موسى-دير البلح-الجزيرة نت
الدكتور شاهين: المجاعة أثرت على القرار الجراحي وأربكت العمليات الجراحية المجدولة (الجزيرة)

في غرف العمليات

تسللت المجاعة لغرف العمليات في المستشفيات، ويقول اختصاصي التخدير والعناية المكثفة في مستشفى شهداء الأقصى بمدينة دير البلح وسط القطاع الدكتور عز الدين شاهين للجزيرة نت إن المجاعة المستشرية أثرت على “القرار الجراحي”، وتسببت في إرباك العمليات الجراحية المجدولة، سواء لجرحى الحرب أو المرضى العاديين.

وحسب الطبيب المختص، فإن الفريق الطبي يضطر في أحيان كثيرة إلى استبدال عملية جراحية بأخرى، أو إلغاء عملية جراحية مجدولة وغير طارئة بسبب معاناة المريض من سوء التغذية، وفي أحيان أخرى يضطر إلى إخضاع الجريح أو المريض لعدة عمليات جراحية بسبب أثر المجاعة على صحته الجسدية.

ويلاحظ في الآونة الأخيرة معاناة أغلب الجرحى والمرضى الذين يصلون المسستشفيات من سوء التغذية وفقر دم حاد، ويقول شاهين إن الجروح والكسور باتت تحتاج إلى فترات أطول من المعتاد من أجل التعافي، لعدم توفر البروتين والعناصر الغذائية الأخرى.

وأكد أن مخاطر المجاعة لا تؤثر على القرارات الجراحية فقط، وحالة الإرباك على جداول العمليات والتكدس في الأقسام ونسبة الإشغال المرتفعة، بل قد تؤدي إلى الموت أيضا، مشيرا إلى أن تأجيل العمليات بسبب المجاعة سيكون له تأثير سلبي على المنظومة الصحية، وستزيد الضغط على المستشفيات والكادر الطبي، وفي ذلك مخاطر حقيقية على الصحة العامة وحياة الجرحى والمرضى.

ويوضح شاهين أن من شأن ذلك زيادة فترة مكوث الجريح أو المريض في المستشفيات التي تعاني من ضغط كبير في نسبة الإشغال تتراوح بين 130 و150% من طاقتها.

وللمجاعة أثرها الخطير على الحوامل، وزيادة معدلات الحمل الخطر والاجهاض والولادات المبكرة، علاوة على المرضى المزمنين كغسيل الكلى، وتشكل خطرا حقيقيا على حياتهم، جراء انخفاض نسبة الهيموغلوبين في الدم، لعدم تناولهم الأطعمة الضرورية والمناسبة.

وعلاوة على كل ذلك، يقول شاهين إن المجاعة مسّت أيضا الكوادر الطبية والصحية، الذين يعملون على مدار الساعة منذ اندلاع الحرب، ويعانون من الاستنزاف والإرهاق الشديدين، مشيرا إلى أن أغلب المستشفيات توقفت عن صرف وجبات طعام منتظمة للعاملين فيها، بسبب أزمة الحصار وإغلاق المعابر.

شاركها.
© 2025 خليجي 247. جميع الحقوق محفوظة.
Exit mobile version