تواجه جهود الإدارة السورية الرامية إلى توحيد البلاد عقبات كبيرة، أهمها وجود هويات عرقية ودينية متعددة تصاعد حضورها بشكل كبير خلال سنوات الحرب الطويلة مع تفكك مؤسسات الدولة التي ربطها نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد به، في ظل مساعي إسرائيل المعلنة لتفكيك البلاد واتخاذ حماية الأقليات ذريعة للتدخل.

وتصدرت المشهد السوري مؤخرا التوترات الأخيرة مع أتباع الطائفة الدرزية -التي تشكل قرابة 2 إلى 3% من إجمالي سكان سوريا بحسب التقديرات- بعد المواجهات التي اندلعت في أشرفية صحنايا بريف دمشق بين فصائل درزية ومجموعات عشائرية وبدوية، وما تبعها من تدخل الأمن العام السوري للسيطرة على المدينة، وامتدت هذه التوترات إلى محيط محافظة السويداء التي تسكنها أغلبية درزية.

وبدا واضحا أن المواقف الأخيرة ليست وليدة اللحظة، بل كانت حصيلة تراكمات استمرت لأشهر عدة تخللتها انتقادات متكررة من بعض الشخصيات الدرزية للحكومة السورية الجديدة، مثل الشيخ حكمت الهجري الذي أعلن في مناسبات عديدة رفضه الخطوات التي اتخذتها الحكومة، وفي مقدمتها الإعلان الدستوري، ثم طالب لاحقا بالحماية الدولية.

الرئيس السوري أحمد الشرع مستقبلا وفدا من السويداء (سانا)

المشهد الدرزي خلال الثورة السورية

لم يكن الموقف الدرزي موحدا خلال الثورة السورية، وكانت لدى الطائفة مواقف متباينة حيال نظام الأسد، وإن كان العامل المشترك بين معظم المرجعيات الدينية والوجهاء وقادة الفصائل هو مصالح الطائفة، لكن هذا لم يمنع من حصول بعض التوترات البينية بسبب تعدد الفصائل المحلية واختلاف المرجعيات العشائرية والدينية.

قررت أغلبية الطائفة الدرزية -التي تقطن في السويداء- النأي بنفسها عن المواجهة العسكرية بين نظام الأسد وفصائل المعارضة، فامتنعت عن الالتحاق بالخدمة الإلزامية في جيش النظام السابق، وكان هذا الموقف أحد عوامل التوتر بينها وبين النظام، لكنها في الوقت ذاته لم تظهر انحيازا إلى المعارضة.

وبعد سنوات من اندلاع الثورة ظهرت فصائل درزية محلية ترفع شعارات سياسية ولا تتوانى عن مواجهة جنود النظام، مثل حركة رجال الكرامة التي يقودها يحيى الحجار، مع وجود فصائل أصغر حجما ارتبطت بمخابرات النظام السابق مثل مجموعة راجي فلحوط والدفاع الوطني بقيادة رشيد السلوم.

بالمقابل، تبلور خطاب صلب معارض للأسد قبل سنوات من سقوطه لدى بعض القيادات المجتمعية مثل ليث البلعوس نجل الشيخ وحيد مؤسس حركة رجال الكرامة، والذي اغتيل عام 2015 من قبل النظام، بالإضافة إلى الشيخ سليمان عبد الباقي الذي قاد مظاهرات مناهضة للأسد في عامي 2022 و2023.

خلافات وتنافس بين المرجعيات الدينية

وبحسب دراسة لمركز جسور للدراسات نشرت في 2021، فإن الخلافات ظهرت بعد وفاة رئيس الرئاسة الروحية الموحدة أحمد الهجري، مما ولّد تنافسا بين نجله حكمت والشيخ يوسف الجربوع.

وحتى عام 2021 بقي حكمت الهجري يظهر الولاء لنظام الأسد، وانفتح على إقامة علاقات مع الحشد الشعبي العراقي واستقبل وفودا له عام 2017، مقابل رفض باقي المرجعيات الدينية وأغلبية الدروز التغلغل الإيراني في المنطقة.

وبعد عام 2021 تبدلت الأحوال، وبات الهجري يقود خطابا تصعيديا ضد نظام الأسد، واتجه للتنسيق مع رئيس الطائفة الدرزية في إسرائيل الشيخ موفق طريف.

بالمقابل، أظهر الجربوع ولاء للنظام، إذ طالب مرارا “الدولة السورية” بفرض سيطرتها على السويداء.

وظهرت في السنوات الأخيرة أيضا أحزاب سياسية تنادي بالإدارة الذاتية، مثل حزب اللواء السوري الذي ارتبطت به أيضا ذراع عسكرية متمثلة بقوة مكافحة الإرهاب، وتحدث مركز جسور عن تلقي القوة لتمويل من التحالف الدولي.

فصيل مسلح في السويداء وهو يتدرب في مطار الثعلة (الجزيرة)
فصيل مسلح في السويداء وهو يتدرب في مطار الثعلة (الجزيرة)

الموقف الدرزي بعد سقوط الأسد

أجرت الإدارة السورية الجديدة لقاءات عدة مع وجهاء الطائفة الدرزية منذ نهاية عام 2024، ومن ضمنهم الشيخ حكمت الهجري الذي تصدّر لاحقا مشهد المعارضين للخطوات السياسية التي تتخذها الإدارة، ونتجت عن هذه اللقاءات تسمية الحكومة السورية محافظا للسويداء.

واصطدم الهجري -الذي تؤيده مجموعات مسلحة مثل المجلس العسكري في السويداء وبعض الفصائل المحلية التي كانت مرتبطة بالنظام السابق- للمرة الأولى مع الحكومة السورية مطلع عام 2025 عند رفضها دخول قوات أمنية إلى السويداء من خارج المحافظة.

كما يطالب بعض مشايخ الدروز بعدم تسليم سلاح الفصائل حتى تشكيل جيش يمثل كامل سوريا وليس لونا واحدا.

ولم تكن الشخصيات الدينية الدرزية راضية عن تمثيل محافظات السويداء في مؤتمر الحوار الوطني الذي عقدته الإدارة السورية في فبراير/شباط الماضي، إذ تم توجيه الدعوات إلى 20 شخصية من الأكاديميين والنشطاء السياسيين من السويداء بصفتهم المستقلة وفقا للنهج الذي اتبعته الإدارة في توجيه الدعوات للمشاركين في المؤتمر.

وعلى إثر ذلك انسحبت بعض الشخصيات المقربة من الزعامات الدرزية من المؤتمر رغم حضور جولاته التمهيدية، مثل المحامي أسامة الهجري ابن عم الشيخ حكمت، والذي أعلن صراحة اعتراضه على الطريقة التي تم توجيه الدعوات من خلالها.

لاحقا، رفض حكمت الهجري الإعلان الدستوري المؤقت الذي صدر في مارس/آذار الماضي، والذي تضمّن التأكيد على أن يكون رئيس الدولة السورية مسلما، بالإضافة إلى اعتبار الفقه الإسلامي المصدر الرئيسي للتشريع.

واعتبر الهجري الإعلان تكريسا لسلطة اللون الواحد، مؤكدا عدم موافقته على تطبيق أي بند لا يحظى بموافقة الشعب السوري، وطالب بنظام ديمقراطي علماني تشاركي، كما أكد نشطاء سياسيون دروز على ضرورة اعتماد اللامركزية في سوريا.

صدام داخل السويداء

اللافت أن التيار الذي يتزعمه الهجري رفض أيضا خيار تولي شخصيات من السويداء الإشراف على تشكيل قوات الأمن في المحافظة، فاصطدموا مع ليث البلعوس خلال محاولته تنفيذ الاتفاق الذي عُقد مع الحكومة السورية بداية مايو/ أيار الجاري، إذ تم منعه من دخول بلدة المزرعة.

ويشير هذا الصدام إلى أن الخلاف مع الحكومة السورية لا يقتصر فقط على التوجهات الفكرية، وإنما في جزء منه يعبر عن رغبة باحتكار تمثيل المكون الدرزي السوري، بحسب المراقبين.

الخلافات بين أبناء وحيد البلعوس -ومن ضمنهم ليث من جهة، والهجري من جهة أخرى- تعود إلى سنوات سابقة عندما اتخذ مشايخ العقل -ومن بينهم حكمت- موقفا سلبيا تجاه الشيخ وحيد ساهم في رفع الغطاء الديني عنه قبيل اغتياله عام 2015.

وبحسب ما أفاد به نشطاء في الحراك السياسي ضمن محافظة السويداء للجزيرة نت، فإن بعض المجموعات المحلية قررت الوقوف خلف مطالب الهجري، لأنها كانت في السابق جزءا من القوى الأمنية التابعة لنظام الأسد، ولديها تخوفات من اعتقالها في حال تسليمها السلاح، وساهمت بموقفها هذا في تصلب أكبر تجاه الإدارة الجديدة.

الاستثمار الإسرائيلي يعقّد المشهد

كشفت إسرائيل عن إستراتيجيها في سوريا بشكل واضح على لسان وزير خارجيتها غدعون ساعر بعيد سقوط الأسد، إذ أكدت أنها ستدعم الأقليات، خاصة الأكراد والدروز.

وفي كل مرة حاولت فيها مؤسسات الدولة السورية الدخول إلى المناطق التي يوجد فيها الدروز -سواء بريف دمشق أو السويداء- صعّدت إسرائيل ميدانيا، لكن التصعيد بلغ مؤخرا ذروته في أعقاب المواجهات بأشرفية صحنايا.

فقد قصفت طائرة مسيرة إسرائيلية محيط قصر الشعب الجمهوري، كما هبطت طائرة مروحية إسرائيلية للمرة الأولى في السويداء، وأوضحت هيئة البث الرسمية الإسرائيلية أنها نقلت مساعدات إلى أبناء الطائفة الدرزية.

وإلى جانب رغبة إسرائيل بتوظيف دروز سوريا لصالح أمنها القومي -كما تؤكد التصريحات الرسمية- فإن دروز إسرائيل -وعلى رأسهم الشيخ موفق طريف- يلعبون دورا في التأثير على تل أبيب.

وقد ظهر طريف خلال المواجهات في أشرفية صحنايا إلى جانب قيادات عسكرية إسرائيلية، للتأكيد على أنه يساهم في دفع إسرائيل إلى التدخل لصالح المكون الدرزي السوري، وتبعه بيان صدر عن الهجري والمجلس العسكري في السويداء يطالبان بالحماية الدولية.

تحذير من داخل البيت الدرزي

بالمقابل، تحذّر شخصيات بارزة منحدرة من محافظة السويداء -وعلى رأسها الإعلامي ماهر شرف الدين، والقيادي الشاب ليث البلعوس- من مغبة الركون إلى الدعم الإسرائيلي ووعود طريف، ودعت تلك الشخصيات إلى الحفاظ على وحدة سوريا.

وسبق أن صدرت تقارير إسرائيلية تتحدث عن اتصالات بين تل أبيب مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي يسيطر عليه الأكراد، بالإضافة إلى محاولة حكومة الاحتلال الإسرائيلي الدفع نحو الإبقاء على القوات الأميركية شمال شرقي سوريا، لمنع توحيد البلاد مجددا بسبب عدم ثقة تل أبيب بالحكومة السورية، مما يعني أنها لا تتعامل بخصوصية مع المكون الدرزي فقط.

لكن من الواضح أن المكون الدرزي يحاول الحفاظ على خصوصيته ضمن الدولة السورية، وبناء عليه يتمسك بعض رموزه بمطلب العلمانية لتفادي وجود صبغة إسلامية للدولة.

بالمقابل، يعيش المكون الدرزي أيضا صراعات بينية، وبعض أطرافه منفتحة أيضا على التدخل الخارجي، الأمر الذي يصعّب حصول تفاهمات مع الحكومة السورية.

شاركها.
© 2025 خليجي 247. جميع الحقوق محفوظة.
Exit mobile version