تدريجياً، انتقلت الحرب المتصاعدة منذ 7 أكتوبر 2023 خارج قطاع غزة، حيث أصبحت المواجهة الإسرائيلية مع حزب الله وإيران هي الأخطر. لطالما اتبعت إيران نهجاً استراتيجياً دفاعياً يعتمد على “الصبر الإستراتيجي”، مفضلةً تجنب المواجهات المفتوحة. ومع ذلك، بعد عام من المواجهات العسكرية، تواجه إيران تحديات كبيرة في الحفاظ على هذا النهج، خاصة مع اقتراب الآثار السلبية للصراع منها بشكل كبير. هذه الظروف الجديدة قد تدفع إيران إلى مراجعة سياساتها الاستراتيجية المعتمدة منذ عقود.
مفهوم “الصبر الإستراتيجي” ليس ابتكارًا الإيراني، وإنما يرتبط بالاستراتيجية الفابية التاريخية التي اعتمدها القائد الروماني فابيوس ماكسيموس لمواجهة حنبعل. فعبر مشاغلة العدو وتجنب المعارك الحاسمة، نجح فابيوس في تحقيق أهدافه. وعلى مر التاريخ، تم تطبيق هذا النوع من الاستراتيجية في الحروب، وأبرزها حرب الاستقلال الأميركية. في السنوات التي تلت الثورة الإيرانية عام 1979، أدركت طهران أهمية تجنب المواجهات العسكرية الشاملة، واستثمرت في مراكمة القوة والتوسع الإقليمي بعيداً عن المعارك المباشرة.
للخدمة في إطار هذه الاستراتيجية، استثمرت إيران بشكل كبير في تطوير برامج الصواريخ الباليستية وتأسيس “فيلق القدس”، الذي يتولى إدارة علاقات إيران العسكرية مع قوى مسلحة خارج حدودها. كان الفيلق أول من دعم حزب الله بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان، ونجح في لعب دور رئيسي في النزاعات الإقليمية الأخرى، مستفيدًا من دروس التاريخ الإيراني. وخلال العقود الماضية، نجحت إيران في بناء شبكة من النفوذ العسكري في المنطقة، مكونةً ما يعرف بـ “حلقة النار” التي تشكل تهديدًا متزايدًا لنقاط القوة الإسرائيلية.
رغم النجاح في نشر هذا النفوذ، حرصت إيران على الالتزام باستراتيجيتها الدفاعية، حتى جاء حدث “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر 2023 ليشكل نقطة تحول. هذا الحدث قد يؤشر إلى نهاية نهجها الاستراتيجي، حيث بات واضحًا أن التعامل مع التهديدات الإسرائيلية يتطلب أساليب جديدة. تصاعدت المخاوف الإسرائيلية إزاء محور المقاومة، مما دفع تل أبيب إلى تغيير تفكيرها العسكري، ليبدو أن هناك إجماعًا داخل إسرائيل على ضرورة القضاء على التهديدات مباشرة.
في خضم الصراع المتصاعد، تجد إيران نفسها أمام خيارات صعبة وقيود موضوعية تؤثر على قدرتها على اتخاذ قرارات واضحة. اختلال ميزان القوى، والضغط الاقتصادي الداخلي، والانقسام السياسي في المجتمع الإيراني كلها عوامل تعرقل اتخاذ القرار. قد تضطر طهران في نهاية المطاف إلى الاختيار بين سيناريوهين رئيسيين: أحدهما بترتيب العمل العسكري واستباق الخطوات الإسرائيلية المزمعة، والآخر بالاحتفاظ بما تبقى من سياسة “الصبر” للحفاظ على استقرار الداخل والإطالة في الصراع مع الرهان على التغيرات السياسية المستقبلية.
بشكل عام، القرار الذي ستتخذه إيران بشأن سياستها مرهون بالتوازنات المعقدة الخارجية والداخلية. كيف ستتعامل مع الأوضاع المتغيرة سيكون له تأثير مباشر على مصيرها ومصير الصراع في المنطقة، وكل من السيناريوهين يحملان مخاطر كبيرة. بالتالي، تظل إيران في موقف صعب يتطلب اتزانًا دقيقًا في توجيه سياساتها في ظل هذه الأزمات المتزايدة.