في خطوة لافتة، عرض الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود على الولايات المتحدة الأميركية الحصول على “السيطرة التشغيلية الحصرية” على قواعد عسكرية وموانئ إستراتيجية في بلاده، في ظل تصاعد التوترات الأمنية في المنطقة على خلفية الضربات التي توجهها القوات الأميركية للحوثيين في اليمن المجاور، والنشاط المتزايد للجماعات المتمردة داخل الصومال.

وجاء العرض ضمن رسالة بتاريخ 16 مارس/آذار اطلعت عليها ونشرت تفاصيلها وكالة رويترز وموقع “سيمافور” الإخباري الأميركي، حيث أكدا أن المقترح الصومالي يتضمن ميناء قاعدة بربرة الجوية في إقليم أرض الصومال الانفصالي، وميناء وقاعدة بوصاصو الجوية في إقليم بونت لاند في الشمال الشرقي للبلاد، بجانب قاعدة بيلي دوغلي الجوية، الواقعة في منطقة شبيلي السفلى على بعد 90 كيلومترا غرب مقديشو.

وأضافت الرسالة التي لم يتم نفيها من قبل المسؤولين في البلدين، أن سيطرة واشنطن على هذه الأصول الإستراتيجية “ستعزز المشاركة الأميركية في المنطقة، وتضمن وصولا عسكريا ولوجستيا متواصلا، وتمنع المنافسين الخارجيين من ترسيخ وجودهم في هذا الممر الحيوي”.

يقدم الجنود الأميركيون تدريبا لعناصر الجيش الصومالي في مواجهة حركة الشباب (غيتي)

سياق إقليمي ملتهب

يمثل هذا العرض محاولة من الرئيس الصومالي، حسن شيخ محمود، لإعادة تموضع مقديشو كلاعب مؤثر في مشهد الصراعات الداخلية، والاستفادة من سياق إقليمي يمر بمرحلة من إعادة التشكل في ظل التطورات المرتبطة بالحرب الإسرائيلية على غزة وارتداداتها التي تطول جنوب البحر الأحمر.

ويلاحظ أن الرسالة جاءت في اليوم التالي لأعنف هجمات نفذتها القوات الأميركية على الحوثيين في 15 مارس/آذار، والتي تضمنت 40 غارة خلفت عشرات القتلى، تنفيذا لأوامر الرئيس الأميركي بشن “عمل عسكري حاسم وقوي” ضد الحوثيين الذين هددهم في منشور على منصة إكس بأن “وقتهم قد انتهى.. وأن نيران جهنم” ستتنزل عليهم إن لم يوقفوا عملياتهم.

وبالنظر إلى تصريح ترامب بأن القصف الأميركي على اليمن “قد يستمر لوقت طويل” يذهب بعض المراقبين إلى أن العرض الصومالي يمثل محاولة لإدخال مقديشو كشريك ضمن ترتيبات واشنطن الأمنية في المنطقة، من خلال سيطرة الأخيرة على مرافق حيوية للخدمات اللوجستية والعمليات العسكرية في كل من إقليمي بونت لاند وأرض الصومال المواجهتين لليمن عبر خليج عدن.

وفي سياق هذه الحرب، يقدم العرض الصومالي بديلا أكثر فاعلية لواشنطن عن قاعدة لومونييه الأميركية في جيبوتي المجاورة، التي اعتبر وزير خارجيتها السابق محمود علي يوسف، أواخر عام 2023، الهجمات الحوثية على المصالح الإسرائيلية تضامنا مع الفلسطينيين، في حين صرح الرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر غيله في فبراير/شباط 2024 برفض بلاده أن تكون منطلقا لاستهداف أي طرف في أزمة البحر الأحمر.

مواجهة الجهود الانفصالية

من جهة أخرى، يهدف الرئيس الصومالي من خلال هذه الرسالة إلى التعاطي مع تحديات داخلية تواجهها مقديشو تمتد في قوس من الأزمات يبدأ بالحفاظ على تماسك ووحدة البلاد، وينتهي بتزايد ملحوظ للجماعات الإرهابية في البلاد ونشاطها وعلى رأسها حركة الشباب.

يربط العديد من المراقبين بين عرض شيخ محمود ومحاولات مقديشو الحيلولة دون إقدام ترامب على الاعتراف باستقلال إقليم أرض الصومال، مع تزايد زخم الدعوات من مقربين من الإدارة الأميركية إلى اتخاذ هذه الخطوة لمواجهة النفوذ الصيني المتزايد في القرن الأفريقي، والاستعاضة بأرض الصومال عن جيبوتي التي تحتضن قاعدة بكين العسكرية الوحيدة خارج الصين.

هذه المحاولة الصومالية تشكل جهدا استباقيا يستهدف استمالة واشنطن التي صرح أحد مسؤوليها للفايننشال تايمز بأن بلاده تقوم “بمراجعة شاملة” لسياستها في الصومال، مما قد يحمل في طياته قطيعة مع سياسة “الصومال الواحد” التي دأبت الإدارات الأميركية المتعاقبة على دعمها.

وبجانب ما سبق، ​شهدت العلاقات بين مقديشو وولاية بونتلاند توترات متزايدة خلال العام الماضي، بلغت ذروتها في مارس/آذار 2024 مع إعلان الأخيرة سحب اعترافها بمؤسسات الحكومة الفدرالية، ردا على تعديلات دستورية أقرها البرلمان الفدرالي، واعتبرتها بونتلاند غير شرعية ومخالفة للدستور المؤقت للبلاد. ​

وفي ظل هذه التوترات، تأتي رسالة شيخ محمود في الوقت الذي يكافح فيه الصومال من أجل الاحتفاظ بالمناطق الساحلية الانفصالية المهمة وسط مخاوف من أن الولايات المتحدة قد تنهي دعمها لبناء الدولة في البلاد، وهو ما دفع الزميل البارز في برنامج أفريقيا “بمركز الدراسات الإستراتيجية والدولية” كاميرون هدسون إلى التصريح بأن العرض الصومالي “وسيلة لحث الولايات المتحدة على الاعتراف بشرعية الدولة الصومالية في هذه المناطق المنفصلة”.

عناصر أمن صوماليين بالقرب من موقغ انفجار بسيارة مفخخة نفذته حركة الشباب
عناصر أمن صوماليون قرب موقع انفجار بسيارة مفخخة نفذته حركة الشباب بمقديشو (الأناضول)

تصاعد خطر الإرهاب

وصعّدت “حركة الشباب المجاهدين” المرتبطة بتنظيم القاعدة من وتيرة عملياتها وهجماتها الشهرية بنحو 50% في عام 2025 مقارنةً بمتوسطها في عام 2024 في منطقتي هيران وشبيلي الوسطى، وفقا لبيانات “مشروع بيانات أحداث الصراعات المسلحة” و”معهد دراسة الحرب”.

وأوضح ملخص نشره “مركز صوفان” أن هجمات “الشباب” الأخيرة أدت إلى استيلائها على بلدات إستراتيجية رئيسية، بل وحتى إلى الاستيلاء مؤقتا على قاعدة عسكرية تابعة للقوات المسلحة الصومالية، كذلك شملت هذه الزيادة محاولة اغتيال الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود في 18 مارس/آذار، واستعادة السيطرة على عدة بلدات فُقدت خلال هجوم الحكومة الصومالية عام 2022 على المسلحين.

بجانب ما سبق، تشير التقارير إلى تطور أداء “تنظيم الدولة في الصومال” والذي تحول نتيجة تدفق المقاتلين الأجانب من فرع إقليمي ضعيف نسبيا إلى أحد أهم فروع التنظيم العالمية، مع إشرافه على العمليات المالية والحركية والخدمات اللوجستية لفروع “تنظيم الدولة” في شرق ووسط وجنوب أفريقيا.

وضمن هذه الظروف، يستهدف الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود بدعوته واشنطن للسيطرة على مواقع إستراتيجية صومالية تعزيز الدعم الأميركي لبلاده في مواجهة التحديات الأمنية التي تعترضها، وتطوير انخراط واشنطن المباشر في الساحة الصومالية، والحيلولة دون اتخاذ ترامب قرارا شبيها بسحبه للقوات الأميركية من الصومال أواخر فترته الرئاسية الأولى.

تزداد هذه المخاوف عند إدراك أن التخلي عن دعم الدولة الصومالية والاكتفاء بعمليات مكافحة الإرهاب أصبحت فكرة سائدة بين الجمهوريين وفقا للمحلل الأميركي البارز كاميرون هدسون، وهو ما لخصه المبعوث الخاص السابق لترامب لأفريقيا بيتر فام بأن “مقديشو تمثل عبئا سنويا قدره مليار دولار على دافعي الضرائب الأميركيين”.

مزايا إستراتيجية

بموقعه الجيوسياسي الحساس، يوفر الصومال العديد من المزايا الإستراتيجية للولايات المتحدة، ووفقا لتحليل منشور على موقع “ذا هبشه”، فإن السيطرة الأميركية على قاعدتي باليدوغي وبربرة ستعزز بشكل كبير قدرات القوات الأميركية العملياتية والتدريبية، كما تضمن سيطرة واشنطن على نقاط إستراتيجية حيوية لرصد التهديدات وهي مثالية لمراقبة الطرق البحرية والأنشطة المسلحة المحتملة.

ومن جهة أخرى، ستوفر هذه القواعد لواشنطن القدرة على نشر فرق استجابة سريعة بكفاءة، والحفاظ على وجود قوي يُشكّل رادعا قويا لأي أطراف معادية أو منافسة، بما يتيح استعراضا سلسا للقوة الأميركية في القرن الأفريقي، كما ستسهم المعاقل الأميركية الجديدة في تطوير القدرة على جمع المعلومات الاستخبارية وتنفيذ تدخلات عسكرية محددة الأهداف ضد التهديدات الإرهابية، مما يحد من القدرات العملياتية للجماعات المسلحة في الصومال والإقليم.

ويصف التحليل المذكور ميناءي بربرة وبوصاصو بأنهما ركيزتان أساسيتان للتجارة البحرية والخدمات اللوجستية العسكرية في القرن الأفريقي، والسيطرة عليهما تمثل تحولا إستراتيجيا مهما لوقوعهما على مسارات بحرية حيوية للتجارة الدولية، ومع اشتداد المنافسة بين القوى العالمية، لا تضمن هذه السيطرة لواشنطن الهيمنة على ممرات حيوية فقط، بل منع المنافسين الآخرين من ترسيخ وجودهم في هذه المناطق الإستراتيجية.

العرض الصومالي على الجيش الأميركي يتضمن ميناء قاعدة بربرة الجوية في أرض الصومال (شترستوك)

أخطار الانتشار العسكري الأميركي

تتعدد الأخطار المحتملة لقبول واشنطن لتعزيز وجودها العسكري في الصومال وتحويله إلى قاعدة إقليمية لاستهداف خصومها سواء على المستوى الإقليمي كالحوثيين في اليمن، أو المجموعات الإرهابية داخل الصومال.

وتشير دراسة منشورة في المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات إلى مجموعة من الإجراءات التي قد يواجه بها الحوثيون مثل هذه الخطوة، بما يتضمن تأليب الرأي العام الصومالي ضد الوجود الأميركي من خلال الحملات الإعلامية التي تصور التدخل الأميركي على أنه استعمار جديد، وتعزيز التحالفات مع جهات إقليمية مناهضة للولايات المتحدة كحركة الشباب الصومالية، لمحاولة تقويض النفوذ الأميركي في الصومال.

كذلك تطرح الدراسة لجوء الجماعة اليمنية إلى الحرب غير التقليدية كأحد التكتيكات المحتملة، من خلال تنفيذ هجمات بالوكالة ضد المصالح الأميركية في الصومال، سواء عبر تمويل وتسليح جماعات محلية معادية لواشنطن، أو عبر استهداف السفن الأميركية في المياه الصومالية ومحيطها.

وبالنظر إلى الديناميكيات التي تحكم صراعات الساسة الصوماليين، فإن هذا العرض إن تمت الموافقة عليه سيضاعف من حالة الاحتقان السياسي في البلاد، حيث ستستخدمه المعارضة السياسية والقوى المجتمعية التي ترى في هذه الخطوة تهديدا للسيادة الوطنية أداة لانتقاد الحكومة الفدرالية، مما يقود إلى تصاعد الاستقطاب وما يرافقه من تداعيات سلبية على جهود المصالحة الوطنية.

صعوبة أخرى تواجه هذا العرض تتمثل في الشكوك العميقة في قدرة مقديشو على التحكم في مواقع خارج سيطرتها المباشرة، وهو ما أشار إليه العديد من المحللين، في حين رجح آخرون أن يزيد هذا المسار من حدة النزاع بين مقديشو وهرجيسا (عاصمة إقليم أرض الصومال).

من الناحية الأمنية، ستستفيد حركة الشباب من زيادة الوجود العسكري الأميركي في البلاد في التجييش ضد الحكومة الفدرالية، وتحويل مواقع انتشار تلك القوات إلى أهداف مباشرة للهجمات، وتعزيز التعاون مع القوى المناوئة لواشنطن إقليميا، حيث أشارت تقارير أممية إلى وجود أدلة على روابط بين الشباب والحوثيين بما يتضمن تهريب أسلحة إلى الصومال عبر الشواطئ اليمنية.

وفي الخلاصة، فإن عرض الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود يأتي ضمن إطار إستراتيجي يهدف إلى تعزيز سلطة الحكومة الفدرالية من خلال الاستعانة بواشنطن في مواجهة خصومه الداخليين من جهة وفي مكافحة الإرهاب والتحديات الأمنية من جهة أخرى، وفي حين تستطيع الولايات المتحدة الاستفادة من هذا التعاون لتعزيز نفوذها في منطقة جيوسياسية بالغة الحساسية، فإن الانتشار العسكري الأميركي في الصومال ليس خاليا من التحديات، بما في ذلك تمزق البلاد والتهديدات الأمنية والحساسية الشعبية.

شاركها.
© 2025 خليجي 247. جميع الحقوق محفوظة.
Exit mobile version