إن الجولات العسكرية بين إسرائيل وحزب الله تظل موضوعًا راسخًا في التاريخ المعاصر للشرق الأوسط. ففي أغسطس 2006، انسحب الجيش الإسرائيلي من لبنان بعد حرب قصيرة ولكنها مدمرّة، حيث تمكن حزب الله من إلحاق الهزيمة بأحد أقوى الجيوش في العالم. في المقابل، صرح إسرائيليون بارزون بأن نتائج تلك الحرب تسببت في تآكل هيبة الدولة العبرية، مما أدى إلى تساؤلات حول فعالية استراتيجيات الردع التي طالما اعتبرت حجر الزاوية لسياسة إسرائيل الأمنية. حالة من التوتر ما تزال تسلّط الضوء على الصراع القائم، خصوصًا مع دخول إسرائيل في جولات جديدة من الصراع مع هذا الحزب.
لا يمكن النظر إلى الأبعاد الاستراتيجية للصراع بين إسرائيل وحزب الله بمعزل عن الجغرافيا والمناخ السياسي في المنطقة. فقد عادت القوات الإسرائيلية في الأول من أكتوبر الجاري إلى لبنان تحت مسمى “عملية عسكرية محدودة”، محاكية بذلك اجتياحات سابقة. يتضمن هذا الهجوم الحالي محاولات لتجاوز الإذلال الذي تعرضت له تل أبيب خلال حرب عام 2006، حيث كان نصر الله حينها قادرًا على إعلان انتصاره بصورة واضحة. إن ظهور ظروف جديدة، مثل القيادة الإسرائيلية الأكثر تشددًا، لا يُغيّر الأساسيات التي تحكم هذا الصراع، الذي يظل مزيجًا من الهجمات العسكرية التقليدية والتكتيكات غير النظامية التي يتمتع بها حزب الله.
الحرب التي نشبت في عام 2006 كانت تمثل نقطة تحول كبرى، حيث لم تنجح القوات الإسرائيلية في تحقيق أهدافها الإستراتيجية، بما في ذلك استعادة هيبتها. فقد تطلب الأمر سنتين حتى تحقق إسرائيل ما تصبو إليه وهو إطلاق سراح الجنود الأسرى، ولكن عبر مفاوضات وليس من خلال النصر العسكري. بل على العكس، فقد خسرت تل أبيب العديد من جنودها وواجهت تهديدًا حقيقيًا لم تُخفه حتى الضغوط الدبلوماسية الدولية التي حصلت على أثر صدور القرار الأممي 1701، والذي أنهى العمليات القتالية بعد 33 يومًا.
الرؤية للإجراءات العسكرية في وقت الحرب كانت معقدة، فقد أدرك حزب الله أن المقاومة تعتمد على استراتيجيات حربية غير تقليدية من خلال تجهيزات متقدمة في مجال الأسلحة والمعدات. كانت صواريخ “كورنيت” و”فجر-5″ تشكل جزءًا من ترسانة حزب الله المتنامية، والتي ضاعفت عدد مقاتليها منذ عام 2006. لم تكن تلك الأسلحة تمثل مجرد إمكانيات عسكرية، بل تجسد حالة استعراض القوة التي انتهجها الحزب في مواجهة آلة الحروب الإسرائيلية. استطاعت جماعة المقاومة استخدام البيئة اللبنانية لصالحها عبر شبكة من الأنفاق والمخابئ، واستطاعت عزل القوات الإسرائيلية بشكل يسمح بتحقيق الإصابات الثقيلة في صفوفها.
التعامل مع الحروب الهجينة كان أحد المفاتيح التي راح حزب الله يشق طريقه من خلالها، إذ استطاع أن ينسج استراتيجية تقترب من تكتيكات حروب العصابات والتي تمزج بين العناصر التقليدية وغير التقليدية. سمحت له معرفته الدقيقة بالأرض استخدام الكمائن والتكيف مع التحرك السريع للعدو. وهو ما ساعد في تحقيق نتائج شبه مستحيلة، حيث بدا أن العمليات العسكرية الإسرائيلية تفقد جديتها أمام قوة التضحية والصمود التي عرف بها مقاتلو حزب الله.
لكن ولعل المثير للدهشة هو المراجعات التي أجرتها المؤسسة العسكرية الإسرائيلية بعد حرب 2006، والتي تحمل إشارات على ضرورة تغيير استراتيجيات التحرك والمعركة. ومع ذلك، يبدو أن هذا الأمر لم يستطع تجاوز القصص التاريخية في إنجازات الجيش الإسرائيلي، خصوصًا أن العمليات الحالية تكون متحركة نحو نفس السيناريوهات غير المحسوبة دون استراتيجيات خروج واضحة. ورغم التحضيرات والتخطيط العسكري للأهداف الواسعة، يظل هناك قلق حقيقي من أن الحرب اليوم داخل لبنان قد تؤدي إلى تكرار ما حدث في الماضي، وخاصةً عندما تتعقد الظروف وينتشر القتال لفترات طويلة.
في هذا الإطار، يجسد الصراع بين إسرائيل وحزب الله تجربة تاريخية تتكرر على صعيد الأرض والوعي. التحديات القائمة والقدرات العسكرية التي يمتلكها كل طرف تزيد من تعقيد الأزمة. إذ أن المواجهات الحالية قد لا تكون مجرد تجسيد لمناوشات حدودية، بل تصورية لأفكار سياسية أكبر نحو المستقبل، حيث أن أي مواجهة جديدة تحمل في طياتها قلقًا عميقًا من التأثيرات على الاستقرار الإقليمي والدولي. إنه صراع يتجاوز المحاور العسكرية ليغدو جزءًا من النسيج المعقد للتاريخ العربي الحديث، وتحولات القوة، وتطلعات الشعوب نحو الحرية والسيادة.