في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، أعلن رئيس وزراء ألبانيا إيدي راما عن خطط لإنشاء “دولة ذات سيادة” للمسلمين البكتاشيين في العاصمة تيرانا، وهذا المشروع الذي يشبه في طبيعته الفاتيكان، يهدف إلى أن يكون موطنًا روحيًا لهذه الطائفة. تمثل البكتاشية رابع أكبر طائفة دينية في ألبانيا بعد المسلمين السنة والمسيحيين. هذا الإعلان أثار استغراب البعض نظرًا لأنه صدر عن رئيس حكومة ينتمي للطائفة الكاثوليكية المسيحية، مما دفع راما نفسه للتعليق على احتمال اعتباره مجنونًا بسبب ذلك. لفهم أبعاد هذا القرار، من المهم النظر في تاريخ البكتاشية وطبيعتها ومواقفها.
تسعى الحكومة الألبانية إلى تحويل مركز البكتاشية الموجود في تيرانا إلى دولة ذات سيادة، ستمنح الحق في المواطنة لأعضاء الطائفة، بما في ذلك رجال الدين وموظفي الحكومة البكتاشية. من المتوقع أن يكون زعيم الطائفة، إدموند براهيماي الملقب بـ “بابا مندي”، هو رئيس هذه الدولة المرتقبة. سيشغل المشروع الجغرافي المعني نفس المساحة الحالية لمركز البكتاشية، بحوالي عشرة هكتارات، مما يمثل ربع مساحة الفاتيكان. الجمهورية الجديدة ستسمح بتناول الكحول، وستتجنب القيود المتعلقة باللباس، مما يعكس توجهًا ليبراليًا في القوانين.
البكتاشية تمثل مزيجًا دينيًا يتضمن جوانب من التصوف والتشيع وبعض الفلسفات المسيحية، فتسعى إلى تفسير القرآن بتفاصيل تشمل المعاني الظاهرة والباطنة. تعتقد البكتاشية بعدم الالتزام بشكل صارم بكل التفاصيل الدينية الإسلامية، مما يجعلها تتصف بالليبرالية والانفتاح على الثقافات الأخرى. أثر هذا التوجه جعل البعض يعتبرها الأكثر ليبرالية بين الطرق الصوفية، وفي نفس الوقت يراها آخرون على أنها تتجاهل بعض الواجبات الدينية التقليدية. من جهة أخرى، تؤمن البكتاشية بفعل الطقوس الروحية الفريدة التي تكرّس تلك الخصوصيات.
تاريخ البكتاشية يعود جذوره إلى القرن الثالث عشر مع الحاج بكتاش ولي، لكن تطورها كمؤسسة دينية بدأت تظهر بشكل أوضح في القرن الخامس عشر. انتشرت في ظل الإمبراطورية العثمانية، وخاصة بين صفوف جنود الإنكشارية. ومع ذلك تعرضت للطرد والحظر من السلطة العثمانية في عام 1826 بسبب اتهامات بأنها تتبنى سلوكًا تخريبيًا وغير تقليدي. رغم ذلك، بعد تحرر ألبانيا من الحكم الشيوعي، بدأت عقيدة البكتاشية تعود إلى الواجهة، خصوصًا مع تقبل المجتمع الألباني لمشاريعها الاندماجية.
في فترة من الزمن، أُعيد تقييم العلاقة بين البكتاشية وباقي الطوائف الإسلامية، لاسيما مع ارتفاع التيار السني في البلاد بعد سقوط الشيوعية. هذا التحول قاد البكتاشيين إلى إعلان انفصال عن الجماعة السنية الرئيسية، حيث تبين أن نسبة أتباع البكتاشية تبلغ حوالي 15% من مجموع السكان الألبان المسلمين. على الرغم من موارد التاريخ العديدة، لم يشتهر البكتاشيون ببناء المساجد التي يعتبرها السنة ضرورية بشكل أكبر.
في سياق حديثه عن الأحداث المعاصرة، أبدى رئيس البكتاشية، بابا مندي، دعمًا لإسرائيل وأدان حركة حماس، وهو الأمر الذي أثار جدلاً واسعًا. انتقد بعض النقاد موقفه من الإبادة الجماعية في غزة وتنديداته تجاه المقاومة، ما يدل على اتساع هوة التقسيم داخل ألبانيا. تظهر هذه المواقف مدى تعقيد العلاقات بين الإسلام والسياسة في ألبانيا، وأيضًا كيف أن تأثير القوى الخارجية، مثل الولايات المتحدة وإسرائيل، ربما يلعب دورًا في مستقبل تلك الدولة المرتقبة.
تعد خطط إيدي راما لإنشاء دولة بكتاشية مستقلة نوعًا من التجريب غير المسبوق في عالم السياسة والدين، وهو أمر يجسد التحديات المتعددة للأقليات الدينية في العالم المعاصر. يطرح هذا المشروع عدة تساؤلات حول قبول المجتمع الدولي له، وما إذا كانت هذه الخطوة ستؤثر على التوازنات العرقية والدينية في ألبانيا. على الرغم من الإعلان الطموح، يبقى أن نرى كيف سيتطور المشهد البكتاشي في ضوء الأحداث المحلية والدولية المتغيرة.