تشتعل الأجواء حول العلاقة بين فرنسا وإسرائيل مجددًا، حيث أعلن وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس في 20 أكتوبر 2023، عزم حكومته اتخاذ إجراءات قانونية ضد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بسبب منع شركات الأسلحة الإسرائيلية من المشاركة في معرض “يورونيفال” للأسلحة البحرية بباريس في نوفمبر المقبل. جاء قرار ماكرون -الذي يُعتبر الثاني في هذا العام- بعد انتقادات متكررة لسياسات الاحتلال الإسرائيلي في غزة ولبنان، حيث دعا إلى وقف العدوان ومنع إمداد إسرائيل بالأسلحة الهجومية. وفي اجتماع حكومي بتاريخ 23 أكتوبر، ذكر ماكرون أن إسرائيل تأسست وفق قرار الأمم المتحدة، مما أثار ردود فعل غاضبة من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي اتهم فرنسا بمعاداة اليهود ونفى أن تكون الأمم المتحدة هي من أنشأ الدولة.
تضاربت مواقف الرئيس الفرنسي إذ عاد ماكرون لينفي الاتهامات ويؤكد أن بلاده تدعم وجود إسرائيل وأمنها. ومع ذلك، فإن التاريخ الطويل للعلاقات الفرنسية الإسرائيلية يتميز بالتحالفات والتوترات على حد سواء، حيث تعتبر فرنسا من أوائل الداعمين لإقامة الدولة اليهودية، ومع ذلك اتهمت العديد من رؤوساءها بمعاداة اليهود. تعود جذور العلاقة إلى القرن الثامن عشر، عندما قام نابليون بونابرت بدعوة اليهود للهجرة إلى فلسطين. ورغم أن فرنسا لم تعترف بإنشاء الكيان الإسرائيلي إلا بعد عام من الإعلان عنه، إلا أنها كانت من أكبر الداعمين في بناء بنيته العسكرية والتكنولوجية.
توضّح الفترة ما بين ميلاد إسرائيل عام 1948 وحرب 1967 أن العلاقة كانت في أوجها حين قامت فرنسا بتزويد إسرائيل بالسلاح والتكنولوجيا النووية، إذ شهدت السنوات الخمسينية إقامة تعاون عسكري مكثف بينهما، حيث شاركت فرنسا في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. وقد أظهرت مواقف هذا التعاون عدة تصعيدات في الأزمات الإقليمية، حيث كانت إمدادات فرنسا العنصر الأساسي في تعزيز القوة العسكرية الإسرائيلية.
ومع وصول الجنرال شارل ديغول إلى السلطة، بدأت العلاقات تأخذ منحى مختلف. فقد سعى ديغول إلى تحديد موقف فرنسا بعيداً عن الهيمنة الأمريكية، مما أدى إلى تعزيز العلاقات مع العرب وإدانة الاحتلال الإسرائيلي في حربي 1967 و1973. ونتيجة لذلك، اتهمت الحكومة الفرنسية بالعداء تجاه إسرائيل واليهود، لكن هذه السياسة ظلت مستمرة مع غالبية الرؤساء الذين تلوه، حيث سعت فرنسا إلى تبني رؤية متوازنة في القضية الفلسطينية.
وعلى الرغم من التقلبات التي شهدتها السنوات الماضية، لا يزال الموقف الفرنسي ثابتًا تجاه حل الدولتين، حيث تحاول الحكومات الفرنسية المتعاقبة، بدءًا من ميتران إلى هولاند وماكرون، الحفاظ على مكانة فرنسا كوسيط في النزاع العربي الإسرائيلي. بعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى واستقبال ياسر عرفات في فرنسا، استمرت الجهود لتسوية الصراع، حتى أيدت فرنسا انضمام فلسطين إلى اليونسكو، بينما أظهرت تأييدًا صريحًا للمبادرات الدولية في هذا الصدد.
منذ بدء عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر 2023، تتجدد التقلبات في السياسة الفرنسية، حيث عبّر ماكرون في البداية عن تضامنه مع إسرائيل، لكنه لاحقًا دعا إلى وقف العدوان على غزة بسبب آثار الحرب الإنسانية وخطر تصعيد النزاع مع لبنان. تذمّر بعض المراقبين من أن هذه التناقضات تعكس صعوبة موقف فرنسا، في ظل التحولات السياسية والتوترات الجيوسياسية المتنامية.
لا شك أن العلاقة الفرنسية الإسرائيلية تُعدّ من أقدم وأعمق العلاقات في العالم الغربي تجاه إسرائيل، رغم ما يرافقها من انتقادات واتهامات بمعاداة السامية، ما تزال فرنسا تُعدّ مؤيدة رئيسية لإسرائيل، لكن بمواقف تحاول في بعض الأحيان أن تُظهر التفهم لمخاوف الفلسطينيين وحقوقهم. وبالتالي، تبقى العلاقة معقدة إذ تلقي بظلالها على سياستها الخارجية وأمنها القومي.