طرابلسـ قد تبدو الأزمة الليبية ظاهريا كمجموعة من التعقيدات الدستورية والسياسية، غير أن ما تخفيه أكثر ترابطا مما يبدو، إذ إنّ سحب خيط واحد من نسيجها قد يبعثر المشهد بأكمله، تماما كما في رقعة أحجار الدومينو التي تنتظر لمسة واحدة لتنهار.
وفي هذا السياق، أثارت المراسيم الثلاثة الصادرة مؤخرا عن رئيس المجلس الرئاسي في ليبيا محمد المنفي -الخاصة بالمحكمة الدستورية، ومؤتمر المصالحة، وتشكيل مفوضية الاستفتاء- تساؤلات حول مدى مشروعية صلاحياته، وحدود التفويض الممنوح له في ظل غياب إطار دستوري واضح.
وجاءت هذه المراسيم في وقت تتقاطع فيه مؤشرات تقارب حذر بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، وسط مساعٍ أممية لكشف مخرجات اللجنة الاستشارية، رغم ما يسودها من تباينات لم تُحسم بعد.
موضع جدل
تصف عضو المجلس الأعلى للدولة أمينة المحجوب -في حديثها للجزيرة نت- مراسيم المنفي بأنها “أحادية ومجردة من أي غطاء دستوري”، معتبرة أنها تفتقر لأي أثر قانوني في ظل وجود سلطة تشريعية قائمة.
أما عضو مجلس النواب عبد المنعم العرفي، فيعتبر أن هذه المراسيم “تفتقر للصفة القانونية”، وكشف عن تحركات برلمانية لردّها ورفضها جملة وتفصيلا.
كما رأى النائب علي السويح أن بعض المراسيم مقبولة من حيث المبدأ، لكنه تحفّظ على طريقة إصدارها بشكل منفرد دون توافق بين الأطراف، خاصة أعضاء المجلس الرئاسي أنفسهم.
بدوره، وصف الأكاديمي القانوني فيصل الشريف جميع الكيانات السياسية الحالية -ومن بينها البرلمان- بأنها غير شرعية، مذكرا بأن ولاية البرلمان انتهت بعد سنة ونصف السنة من انتخابه ولا يحق له التمديد من دون استفتاء شعبي، معتبرا أن ما يجري يمثل “انتهاكا للإعلان الدستوري والاتفاقات السياسية”.

تفاهمات في الأفق
ورغم التباينات، فإن مؤشرات لتفاهم سياسي باتت تلوح بين مجلسي النواب والدولة، مع تصاعد الحديث عن تشكيل حكومة موحدة كأولوية مركزية.
وقال النائب عبد النبي عبد المولى -للجزيرة نت- إن التفاهم بين المجلسين “فعلي”، وتوقع تشكيل حكومة موحدة بحلول يونيو/حزيران المقبل، مشيرًا إلى أن المجلس الأعلى للدولة بات ينخرط في مشروع وطني مشترك مع البرلمان.
من جانبها، أكدت أمينة المحجوب وجود تواصل سياسي متقدم بين المجلسين، معتبرة أن الدفع نحو تشكيل حكومة موحدة يُناقش بجدية، مع تداول أسماء مرشحة لرئاستها.
وأفاد عضو مجلس الدولة أحمد لنقي -للجزيرة نت- بأن التوافق بين المجلسين لم يعد خيارًا سياسيًا، بل أصبح “استحقاقا لا مناص منه”، لتمرير الاتفاق السياسي، وتقاسم المناصب السيادية، ومراجعة السياسات الاقتصادية والمالية، والبدء بمسار إصلاحي شامل.
لكن مقرر المجلس الأعلى للدولة القاسم دبرز خالف هذا الطرح، مشيرًا إلى عدم وجود مؤشرات جدية للتوافق حول المواد الخلافية، خصوصًا ما يتعلق بشروط الترشح، متهمًا البرلمان بالتمسك “بمعايير مفصّلة على مقاس شخصيات بعينها”، وهو ما يرفضه مجلس الدولة بشكل قاطع.

جدل حول الرئاسة
ووسط الحراك الجاري، أثيرت أيضًا مسألة شرعية رئاسة مجلس الدولة، إذ دعا عضو المجلس محمد تكالة -في كلمة متلفزة- إلى انتخابات مبكرة لمكتب رئاسة المجلس.
وعُقد أمس الأحد اجتماع تشاوري لبحث المبادرة وآليات توحيد المجلس قبل أغسطس/آب المقبل، وهو ما رآه النائب العرفي بوابة لتشكيل حكومة تنفيذية جديدة تقود نحو الاستحقاق الانتخابي.
ومن جهة أخرى، لم تُستبعد احتمالية ولادة حكومة تنفيذية جديدة، إما برعاية التفاهمات بين المجلسين أو ضمن صيغة توافقية وسطية.
وقال النائب عبد المنعم العرفي إن تجاوز الخلاف حول رئاسة مجلس الدولة سيمهّد الطريق لتشكيل حكومة تنفيذية جديدة هذا العام، مضيفا أن بعض المرشحين حصلوا بالفعل على التزكيات المطلوبة.
وبدوره، لم يستبعد لنقي إمكانية طرح خيار “الحكومة التنسيقية” كتسوية واقعية لتجاوز الانقسام، شريطة ألا تكون بوابة لإعادة إنتاج الأجسام الحالية، بل أداة لتقليص الفجوة بين السلطتين.

مقترحات حاسمة
وفي ما يتعلق بالخلافات داخل اللجنة الاستشارية التابعة لبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، كشف مصدر خاص للجزيرة نت عن أن النقاشات داخل اللجنة لم تكن خلافية بالمعنى التقليدي، بل اتسمت باختلاف في ترتيب الأولويات، مشيرا إلى أن التوصيات انحصرت في 3 مسارات رئيسية:
- المسار الأول يقترح إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية معا، مع فك الارتباط بين نتائجهما.
- المسار الثاني يدعو إلى الاكتفاء بإجراء انتخابات برلمانية فقط.
- المسار الثالث يقترح تجاوز الأجسام الحالية كليًا، والذهاب نحو تشكيل هياكل سياسية جديدة ضمن تسوية شاملة.
ويرى المحلل السياسي فرح فركاش أن تحركات المجلس الرئاسي والبرلمان الأخيرة تأتي كنوع من الاستباق لمخرجات اللجنة الاستشارية، في ظل تسريبات عن إمكانية اقتراح إلغاء المجلس الرئاسي أو الدعوة لانتخابات برلمانية منفصلة.
وأشار فركاش -في حديثه للجزيرة نت- إلى أن بعض الأطراف تسعى لربط إجراء الانتخابات التشريعية بالاستحقاق الرئاسي، رغم تعذّر ذلك في ظل الانقسام الأمني والسياسي، وتعنت مرشحين جدليين، مما قد يُبقي المعادلة على حالها ويطيل عمر المؤسسات القائمة.