غزة– بعد 3 أشهر من البحث المضني، عثر يوسف تيسير خضر، أخيرا، على فرشة طبية لوالده الستيني الجريح، الذي يرقد في مجمع ناصر الطبي، إثر إصابة بليغة تعرض لها نتيجة غارة جوية إسرائيلية استهدفت خياما للنازحين في منطقة المواصي غربي مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة.
يحتاج الأب تيسير (62 عاما) هذه الفرشة، لتخفيف آلامه، وقد أصيب بتقرحات ناجمة عن عدم قدرته على الحركة منذ إصابته قبل نحو 4 أشهر، حيث تساقطت عليه شظايا صواريخ إسرائيلية، بينما كان جالسا ينتظر أداء صلاة الظهر في مصلى من النايلون، واضطر الأطباء إلى بتر ساقه من أسفل منطقة الحوض.
ولا تتوفر مثل هذه الفرشة الطبية في القطاع، الذي تعرضت مستشفياته ومرافقه الصحية ومستودعاته ومتاجره المتخصصة بالمعدات والمستلزمات الطبية، لاستهداف ممنهج، طوال شهور الحرب التي شنتها إسرائيل عقب عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وتسبب هذا الاستهداف المباشر بالقصف والاجتياح، وغير المباشر بالحصار ومنع الاحتياجات الأساسية من أجهزة وأدوية ومستلزمات طبية ووقود، في خروج غالبية المستشفيات ومراكز الرعاية عن الخدمة.
تلكؤ في تنفيذ الاتفاق
هذه التجربة المريرة للمهندس يوسف (35 عاما) مع والده الجريح، لها وجوه كثيرة بالنسبة لكل الغزيين، الذين يعانون في توفير احتياجاتهم الأساسية، جراء ما تقول السلطات المحلية التي تديرها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في غزة إنها “مماطلة من الاحتلال وتلكؤ في تنفيذ البروتوكول الإنساني من اتفاق وقف إطلاق النار، رغم وضوح بنوده وتحديد الاحتياجات والأولويات المطلوبة بمواقيت محددة”.
أجريت لوالد يوسف 9 عمليات جراحية، ويقول للجزيرة نت إنه يرقد حاليا في المستشفى من دون أي علاجات، سوى المتابعة الأولية لتغيير الضمادات عن جروحه الغائرة، بينما لا تتوفر في مستشفيات القطاع القدرة على التعامل الجراحي مع حالته الصحية، وهو بحاجة لجراحة عظام متقدمة وتركيب طرف صناعي.
ونتيجة هذه الحال، أصيب هذا الجريح بمضاعفات، تسببت في فقده 30 كيلوغراما من وزنه خلال 3 أشهر، وتقرّحات شديدة، وعانى ابنه يوسف ليعثر له على فرشة طبية.
ورغم حالته الصحية المتدهورة، فإن هذا الجريح لا يعتبر من الحالات ذات الأولوية للسفر من أجل العلاج بالخارج، نظرا لتقدمه بالعمر، ومنح الأولوية للأطفال والنساء والأصغر عمرا، ومن هم في وضع أشد خطورة، ضمن قائمة تضم نحو 35 ألف جريح ومريض، يحتاجون لموافقة أمنية إسرائيلية للسفر من خلال معبر رفح البري مع مصر.
ومهندس البرمجيات يوسف فقد عمله مع اندلاع الحرب، جراء عدم توفر الكهرباء والإنترنت، واضطراره للنزوح مع أسرته وعائلته من بلدة بيت حانون في شمال القطاع.
ويقول “نزحنا 14 مرة، واستشهد طفلاي ليان (12 عاما) وحمزة (11 عاما) في غارة جوية إسرائيلية خلال نزوحنا بمخيم النصيرات، ودُمرت كل منازلنا في غزة وبيت حانون، والقلق يكاد يقتلني خشية أن أفقد والدي”.
أزمة الكهرباء
وحرم الاحتلال مليونين و300 ألف فلسطيني في القطاع الساحلي الصغير من إمدادات الكهرباء منذ اللحظة الأولى لاندلاع الحرب، وانعكست هذه الأزمة على الخدمات الحيوية، وأطلقت شركة توزيع الكهرباء في غزة نداء استغاثة عاجلا بالتزامن مع المنخفض الجوي الذي ضرب البلاد، خلال اليومين الماضيين، لتوفير المعدات والآليات الحيوية لإعادة تشغيل شبكات توزيع الكهرباء وتغذية المرافق الحيوية الأساسية.
وتقول الشركة إن انقطاع الكهرباء لـ15 شهرا، ولا يزال، أدى إلى تداعيات خطيرة على جوانب الحياة كافة، خاصة القطاعات الأساسية، مثل الصحة والتعليم والمياه والاتصالات.
ورغم مرور 3 أسابيع على اتفاق وقف إطلاق النار بين (حماس) وإسرائيل، الذي دخل حيز التنفيذ في 19 يناير/كانون الثاني الماضي، لم تسمح دولة الاحتلال حتى اللحظة بإدخال الاحتياجات الأساسية لإصلاح وترميم قطاع الكهرباء المدمر.
ونتيجة أزمة الكهرباء وعدم توفر الوقود والآليات الثقيلة، تعاني بلديات القطاع من عدم قدرتها على التعامل مع تداعيات الحرب، وترحيل النفايات وفتح الشوارع المغلقة والمدمرة، وإعادة تشغيل محطات الصرف الصحي، وآبار المياه وإيصالها للمناطق السكنية.
وكان لأزمتي الكهرباء وعدم توفر مستلزمات زراعة الأسنان، أثرها على الثلاثيني محمد حماد، الذي لم يتمكن طوال فترة الحرب من استكمال علاجه لدى عيادة خاصة لطب الأسنان، اضطرت للتوقف عن العمل.
ويقول حماد للجزيرة نت إن الطبيب المعالج استأنف في الفترة الأخيرة عمله جزئيا، عبر تشغيل الأجهزة بواسطة الطاقة الشمسية، ولكنه لا يزال غير قادر على استكمال علاجه، لأنه يحتاج لمواد خاصة بزراعة الأسنان، أخبره الطبيب أنها غير متوفرة في القطاع.
عبث بالأولويات
وتكتظ الأسواق بسلع ثانوية من المسلّيات والمشروبات الغازية والشوكولاتة وأنواع كثيرة من البسكويت وغيرها، تقول مصادر مطلعة للجزيرة نت إنه يجري إدخالها ضمن شاحنات المساعدات الإنسانية عبر المعابر التي تسيطر عليها قوات الاحتلال، وتأتي على حساب المساعدات التي ينص عليها اتفاق وقف إطلاق النار من حيث الكمية والنوعية، في الوقت الذي تمنع فيه إسرائيل الاستيراد التجاري بصورة طبيعية.
وتقول المريضة الستينية أمل الشوا للجزيرة نت “يدخلون لنا البسكويت ويمنعون الأدوية، أين المنطق في ذلك؟ إنهم يتلاعبون بصحتنا وحياتنا”.
ومنذ 8 أشهر لا تجد الشوا (60 عاما) علاج الإنسولين المناسب، والذي اعتادت عليه منذ اكتشاف إصابتها بمرض السكر، واضطرت إلى استبداله بآخر، لكن لا يؤدي المفعول نفسه.
والشوا نازحة مع أسرتها في خيمة بمنطقة المواصي غربي مدينة خان يونس، منذ أن اضطرت إلى مغادرة منزلها بمدينة غزة مع اندلاع الحرب. وتشكو من سوء الأوضاع المعيشية وتهالك الخيمة، وعدم توفر بديل، وتتساءل “أين البيوت الجاهزة والخيام التي تحدثوا عنها بالاتفاق؟”.
مستشفيات منهارة
ولم تصل مستشفى العودة (مؤسسة أهلية) أي “مساعدات طبية” خاصة بها عبر منظمة الصحة العالمية، ويقول مديرها محمد صالحة للجزيرة نت “طلبنا من المنظمة أجهزة ومعدات وأدوية ووقودا منذ الإعلان عن وقف إطلاق النار ولم يصلنا أي شيء”.
و”العودة” هي المستشفى الوحيدة العاملة في شمال القطاع بعدما دمر الاحتلال باقي المستشفيات وأخرجها عن الخدمة. وبحسب صالحة يراجع قسم الاستقبال والطوارئ يوميا نحو 500 حالة، وحوالي 100 امرأة تراجع عيادة النساء، وتجري فيها 12 حالة ولادة يوميا، إضافة إلى التعامل اليومي مع نحو 150 طفلا، باتت “العودة” وجهتهم للخدمة الصحية بعد تدمير “مستشفى كمال عدوان”.
ولا يزال الاحتلال يمنع وصول الأجهزة والمعدات الطبية لشمال القطاع. ووفقا لصالحة فإن غالبية الأجهزة بمستشفى العودة متهالكة بعد عمليات الصيانة المتكررة، والصيدلية في المستشفى باتت شبه فارغة، وقد نفدت الكثير من الأدوية الأساسية ومنها أدوية أطفال ومسكنات آلام.
ولا يختلف الحال في مستشفيات جنوب القطاع عن شماله، ويقول الناطق باسم “مستشفى غزة الأوروبي” الدكتور صالح الهمص للجزيرة نت “لم يصلنا أي شيء ذو قيمة، ويمكن أن يحدث فارقا في الوضع الصحي المنهار”.
وبحسب صالحة والهمص، فإن الاحتلال يتنصل من التزاماته المنصوص عليها في اتفاق وقف إطلاق النار، الذي لم ينعكس حتى اللحظة على واقع المستشفيات والقطاع الصحي.
خروق إسرائيلية
ويقول “المكتب الإعلامي الحكومي” إن الأوضاع الإنسانية الكارثية في القطاع تتدهور بشكل خطير، في ظل استمرار الاحتلال بالمماطلة والتلكؤ في تنفيذ البروتوكول الإنساني من الاتفاق.
وينص الاتفاق في شقه الإنساني على إدخال 600 شاحنة مساعدات يوميا، بينها 50 شاحنة وقود، والبدء في إدخال مستلزمات الإيواء من خلال توفير 60 ألف وحدة متنقلة (كرافانات) وإدخال 200 ألف خيمة لإيواء النازحين، ومولدات كهربائية وقطع غيارها وألواح الطاقة الشمسية والبطاريات، وبدء إدخال مواد إعادة الإعمار، ومعدات إزالة الأنقاض، وإعادة تأهيل المرافق الصحية والمخابز والبنية التحتية، بالإضافة إلى تسهيل حركة المرضى والجرحى والحالات الإنسانية عبر معبر رفح.
بيد أن الإعلامي الحكومي يؤكد أن ما يدخل من حيث الكمية والنوعية مخالف للاتفاق، وفي غالبيته “طرود غذائية وخضار وفواكه وسلع ثانوية كالشوكولاتة والمقرمشات (الشيبس)، على حساب الاحتياجات الأخرى، مما يعني تلاعبا واضحا بالاحتياجات وأولويات الإغاثة والإيواء”.
ويقول رئيس “المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان” الدكتور رامي عبدو للجزيرة نت إن “إسرائيل تفرض ظروفا معيشية كارثية على الغزيين وتحرمهم من المقومات الأساسية اللازمة للبقاء على قيد الحياة للاستمرار بجريمة الإبادة”.
وتستمر دولة الاحتلال في “منع إعادة تأهيل المستشفيات التي دمرتها وتحظر إدخال احتياجات المستشفيات الأساسية من أجهزة طبية وأدوية ومستهلكات طبية ومولدات الكهرباء والوقود ومحطات الأكسجين”، بحسب عبدو.
ووفقا لرئيس المرصد، فإن “القيود الإسرائيلية غير القانونية المستمرة تشمل كذلك منع إدخال المباني المؤقتة والخيام والمستلزمات الأساسية اللازمة لإيواء مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين دمرت إسرائيل منازلهم والمعدات اللازمة لترميمها”.