يشعر الأميركيون البيض بخوف مرضي من فقدان وضعهم كأغلبية وما يمنحهم ذلك من نفوذ، وهم بالتالي يدعمون سياسات الرئيس دونالد ترامب العنصرية المناهضة للهجرة.
وبهذه الجملة القصيرة لخص موقع إنترسبت مقالا للصحفي جيمس رايزن، وصف فيه غيتيسبيرغ بأنها أكثر المدن الأميركية أصالة، وقال إنها المكان الذي حاول فيه القائد الجنوبي روبرت إي. لي تدمير الأمة، عندما حاول أبراهام لينكولن علاج أمراضها، كما أنها هي التي كشف منها الروائي وليام فولكنر أن البلاد لا تزال عنصرية ومنهكة بشكل لا رجعة فيه.
ورغم أن بريق ماكدونالدز وبرغر كينغ وول مارت يخفي اليوم الكثير من ماضي هذه المدينة الدموي في الحرب الأهلية، فإن غيتيسبيرغ بنسلفانيا لا تزال العاصمة الرمزية للصراع الأميركي التاريخي الذي لا ينتهي، والذي يكون مآله في النهاية دائما مسألة العنصرية.
مفتاح فهم ترامب
وهذا يعني -حسب الكاتب- أن هذه المدينة مفتاح فهم الرئيس الأميركي على أفضل وجه، وبمجرد أن يدرك المرء أن صعود ترامب يدور حول مخاوف البيض وسلطتهم -وأن هذه هي نفس الدوافع التي أشعلت الحرب الأهلية- حينها تصبح أجندة ترامب منطقية بالنسبة له.
وتنبع رمزية غيتيسبيرغ -حسب الكاتب- من كونها المكان الذي غزا فيه الكونفدراليون الشمال لحماية العبودية والتفوق الأبيض، ولا تزال هجمة بيكيت يوم 3 يوليو/تموز 1863 حية في الأساطير الجنوبية وإن كانت في الحقيقة كارثة عليهم، وبعدها أصبحت هزيمتهم النهائية مجرد مسألة وقت.
ولذلك جاء لينكولن إلى غيتيسبيرغ ليقول في خطابه الأكثر شهرة “إن هذه الأمة ستولد من جديد من الحرية، وإن حكومة الشعب -التي هي من الشعب ولأجل الشعب- لن تزول من على وجه الأرض” وأكد أنه لا يمكن السماح لحكم سلافي أوليغاركي بإدارة البلاد.
ولكن بعد استسلام لي، وانتهاء الحرب عام 1865، ظل ملايين البيض في الجنوب يرفضون قبول زوال الحكم السلافي، كما لم يقبل الكثير من أحفادهم قط أن البيض والسود يمكن أن يعيشوا على قدم المساواة حقا، كما يقول جيمس رايزن.
ونبه الكاتب إلى أن الهستيريا البيضاء التي اجتاحت الجنوب قبل الحرب الأهلية هي التي غذت صعود ترامب، وتصاعد التطرف اليميني في أميركا، لا القلق الاقتصادي كما ادعى الكثير من الخبراء.
الهستيريا البيضاء التي اجتاحت الجنوب قبل الحرب الأهلية هي التي غذت صعود ترامب، وتصاعد التطرف اليميني في أميركا، لا القلق الاقتصادي كما ادعى الكثير من الخبراء.
ومع أن العديد من الناخبين المترددين دعموا ترامب لظنهم خطأ أنه سيكون مفيدا للاقتصاد، فإن الأمر بالنسبة لقاعدته المؤيدة كان دائما متعلقا بالعرق والعنصرية، وقد اتضح أن ناخبي حركة “لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى” (ماغا) لا يحركهم الاقتصاد، والدليل أنهم لا يكترثون بارتفاع الأسعار والذعر المالي الناتج عن رسوم ترامب الجمركية.
واليوم -كما يقول الكاتب- تخشى ماغا، كما خشي أسلافها الجنوبيون، أن تصبح أميركا قريبا شديدة التنوع لدرجة أن يفقد البيض سلطتهم على السياسة والمجتمع، خاصة أن عدد الأطفال الأميركيين البيض دون سن الخامسة سيكون حوالي 47% فقط عام 2025.
مستعدون للتخلي عن الديمقراطية
ورأى الكاتب أن هذه الإحصائية تفسر هستيريا ماغا وجزءا كبيرا من أجندة ترامب، كما تفسر سياساته القاسية المناهضة للهجرة وتشدده في الترحيل، ومحاولاته إنهاء حق المواطنة بالولادة، كما تفسر حركة مناهضة الإجهاض وحركة اليمين المؤيدة للولادة، وتظهر أنها كلها محاولات فاشلة لزيادة نسبة البيض بين السكان.
وتتضح الحقيقة العنصرية لحركة اليمين المؤيدة للولادة من خلال مواقفها المتناقضة، إذ يعادي العديد من قادتها الهجرة بشدة، وفي الوقت يزعمون أنهم يخشون انخفاض عدد السكان، والحقيقة -حسب الكاتب- أنهم يخشون انخفاض عدد السكان البيض فقط.
وفي هذا السياق، أصدر ترامب سلسلة مسعورة من الأوامر المناهضة للهجرة، شملت تجميد تمويل إعادة توطين اللاجئين، وحظر المساعدة القانونية للمهاجرين، واحتجاز وترحيل الطلاب لمجرد مشاركتهم في احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين، وسحب مئات تأشيرات الطلاب الدوليين دون تفسير، والهدف الوحيد من كل ذلك تقليل عدد الأشخاص غير البيض الذين يدخلون البلاد، ويتجلى ذلك في منحه وضع اللاجئ للبيض من جنوب أفريقيا، مدعيا زورا -حسب الكاتب- أنهم يتعرضون للاضطهاد في بلادهم.
ويخلص رايزن إلى أن الأمر الأكثر شؤما اليوم أن ماغا غارقة في نظريات المؤامرة لدرجة أنها طورت كراهية عميقة للحكومة الفدرالية، لأنهم لا يعتقدون أنها لعبت دورا أساسيا في تراجعهم الديموغرافي فحسب، بل يبدو أنهم مقتنعون بأن الديمقراطية الليبرالية على النمط الغربي لم تعد النظام السياسي المناسب لهم، وهم بالتالي مستعدون للتخلي عنها لصالح حاكم مستبد قومي أبيض مثل ترامب.