شكّل الاجتماع الثلاثي الذي انعقد في الدوحة بين أمير دولة قطر والرئيس الكونغولي والرئيس الرواندي مفاجأة غير متوقعة في الأوساط الدبلوماسية الأفريقية، لا سيما تلك المهتمة بالأزمة في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وفتح هذا اللقاء باب أمل في إمكانية إيجاد حل للأزمة المعقدة التي استعصت على الكثير من الأطراف الإقليمية والدولية التي سعت للحل، كما ألقى الاجتماع الضوء مرة أخرى على جهود قطر الحثيثة للوساطة وقدرتها على حل النزاعات حول العالم، وليس في منطقة الشرق الأوسط وحدها.

يأتي جهد الدوحة لحل الصراع في الكونغو الديمقراطية في ظل مبادرات متعددة ومسارات متنوعة بذلها الأفارقة لحل الصراع منذ اندلاعه في أوائل التسعينيات فيما عرف بحرب الكونغو الأولى والثانية، وتصاعده وانتشاره عبر دول الجوار، ويبدو أن جميع المسارات السابقة قد فشلت في إيجاد حل جذري للصراع.

فما هي تلك المسارات ولماذا فشلت، وهل سينجح مسار الدوحة في تحقيق نجاح فشل فيه الآخرون؟

مسار لوساكا:

في يوم 10 يوليو/ تموز 1999، وقّع رؤساء ست دول هي: الكونغو الديمقراطية، زيمبابوي، أنغولا، ناميبيا، أوغندا ورواندا، وعدد من الفصائل المسلحة على اتفاقية لوساكا للسلام، وتضمنت الاتفاقية وقفًا فوريًا للأعمال العدائية، وتشكيل لجنة عسكرية مشتركة تضم الأطراف المتحاربة تحت رئيس معيّن من منظمة الوحدة الأفريقية (الاتحاد الأفريقي حاليًا)، وتتمثل مهمة اللجنة المشتركة في مراقبة وقف إطلاق النار، ووضع آليات لنزع سلاح المليشيات، ومراقبة انسحاب القوات الأجنبية وفقًا لجدول زمني متفق عليه، بالإضافة لنشر قوات من الأمم المتحدة للمساعدة الإنسانية والمراقبة وحماية المدنيين، ومن ثم الشروع في حوار سياسي بين الأطراف؛ بهدف التوصل إلى نظام سياسي جديد في الكونغو الديمقراطية.

وتم تحديد الحركات المسلحة المعنية بالاتفاق وهي: مليشيا الإنترهاموي وهي من بقايا النظام الرواندي السابق المتهم بارتكاب الإبادة عام 1994، وماي ماي المدعومة من الكونغو، وقوات التحالف الديمقراطي الأوغندية، وحركة يونيتا الأنغولية، وقوات الدفاع عن الديمقراطية البوروندية.

كان من المقرر أن يدخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ خلال 24 ساعة من التوقيع، أي يوم الثلاثاء 31 أغسطس/آب 1999، لكن تم تبادل الاتهامات بين الأطراف الموقعة على الاتفاقية، وتصاعدت الحرب الإعلامية، مما دعا حركة تحرير الكونغو إلى إعلان إلغاء وقف إطلاق النار بعد زعم هجوم الجيش الكونغولي على مواقعها، كما تأخر إعلان تعيين رئيس اللجنة العسكرية المشتركة، فضلًا عن عدم توفّر الدعم المالي واللوجيستي للاتفاقية.

في وقت لاحق، تم تعيين الجنرال الجزائري رشيد لعلالي، رئيسًا للجنة العسكرية المشتركة وباشر مهامه، كما قامت منظمة الوحدة الأفريقية بتعيين وسيطين للسلام، وهما: منظمة سانت إيجيديو الإيطالية، والمنظمة الدولية للفرانكفونية، لكن بعض الأطراف رفضت قبولهما كوسطاء وطالبت بوساطة أفريقية.

أقرّت الأمم المتحدة أن الأطراف الموقعة على اتفاق لوساكا في مجال نزع السلاح وإعادة الدمج لم تتمكن من تحقيق أي نزع سلاح ذي معنى من شأنه أن يؤدي إلى الحد من التهديد الأمني للدول المتضررة وخاصة رواندا.

مسار بريتوريا

استضافت بريتوريا عاصمة جنوب أفريقيا في يوليو/ تموز 2002، محادثات سلام بين رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية جوزيف كابيلا، والرئيس الرواندي بول كاغامي، برعاية من رئيس جنوب أفريقيا ثابو مبيكي، والأمين العام للأمم المتحدة، في محاولة لإنهاء الحرب الكونغولية الثانية، التي اندلعت في الكونغو الديمقراطية، وتم الوصول لاتفاق سلام بين البلدين قضى بموافقة رواندا على سحب نحو 20 ألف جندي، مقابل التزام الكونغو الديمقراطية بوقف دعم جماعات الهوتو (مقاتلي القوات الديمقراطية لتحرير رواندا المعارضين والهاربين بعد الإبادة الجماعية في رواندا والمعروفين بالانترهاموي) ونزع سلاحها.

يعتبر مسار بريتوريا مكملًا لمسار لوساكا الذي وقع عام 1999، ودعا إلى وقف إطلاق النار وسحب القوات الأجنبية من الكونغو الديمقراطية. ولكن مع ذلك لم تصمد اتفاقية بريتوريا طويلًا، إذ سرعان ما شعر الروانديون أن مصالحهم الاقتصادية والزراعية على الحدود مع الكونغو عُرضت للخطر، وشعر العديد من الأسر الرواندية بالظلم.

وقاد فشل مسار بريتوريا إلى توترات دبلوماسية مستمرة بين جنوب أفريقيا ورواندا عبر عدة محطات أبرزها:

في عام 2013، ساعدت قوات جنوب أفريقية مشاركة ضمن قوات حفظ السلام في الكونغو الديمقراطية في صد هجوم كبير لحركة “23 مارس” في شرق الكونغو الديمقراطية. وفي عام 2021، اتهمت جنوب أفريقيا رواندا بالتجسس على هواتف الرئيس سيريل رامافوزا باستخدام تقنية بيغاسوس الإسرائيلية.

وفي عام 2014، طردت جنوب أفريقيا دبلوماسيين روانديين من أراضيها بزعم تورطهم في مقتل المعارض الرواندي ومدير المخابرات السابق باتريك كاريغا بفندق خارج جوهانسبرغ، وردّت كيغالي بطرد 6 دبلوماسيين من جنوب أفريقيا من أراضيها.

أعلنت جنوب أفريقيا في فبراير/ شباط 2025، بسحب قواتها من الكونغو الديمقراطية بعد مقتل أكثر من 14 جنديًا في هجوم منسق بين حركة “23 مارس” والقوات الرواندية، مما أدى لأزمة دبلوماسية جديدة بين كيغالي وبريتوريا.

عملية لواندا

طلب الاتحاد الأفريقي خلال قمة مالابو المنعقدة في 28 مايو/ أيار 2022، من رئيس جمهورية أنغولا جواو لورينسو التوسط لحل النزاع في جمهورية الكونغو الديمقراطية، ومن جانبه قدّم الرئيس لورينسو دعوة لقمة أفريقية مصغرة في لواندا بتاريخ 23 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، وحضر القمة رؤساء: بوروندي، الكونغو الديمقراطية، وزير خارجية رواندا، وميسّر عملية السلام الرئيس الكيني السابق أهورو كنياتا.

كان الهدف الرئيسيّ من القمة هو وضع جدول زمني لتنفيذ الإجراءات بهدف وقف الأعمال العدائيّة، وانسحاب حركة “23 مارس” من المناطق التي استولت عليها منذ عام 2022، ووضع إحداثيات متفق عليها من خلال عمليتَي نيروبي ولواندا، وخارطة طريق عملية لواندا في 6 يوليو/ تموز 2022، بجانب وقف الدعم السياسي والعسكري لحركة “23 مارس” والقوات الديمقراطية المتحالفة لتحرير رواندا، وجميع الحركات المسلحة المحلية والأجنبية الأخرى الناشطة في شرق الكونغو الديمقراطية، بالإضافة إلى استئناف الحوار الثنائي بين جمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا لتطبيع العلاقات الدبلوماسية، والالتزام بتنفيذ خارطة طريق عملية لواندا والاتفاقات التي تم التوصل إليها في عملية نيروبي.

وأوصت القمة بنزع سلاح حركة “23 مارس” وتسريع تنفيذ برنامج نزع ودمج وتسريح للقوات، وإعادة اللاجئين إلى مناطقهم بالتنسيق مع بعثة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في الكونغو (مونوسكو).

لم تحقق عملية لواندا نتائج ملموسة بسبب سوء نية الأطراف المعنية، وكذلك الافتقار للإرادة والدعم السياسي والمالي من قبل الاتحاد الأفريقي والهيئات الإقليمية، وتمظهر هذا الفشل في استمرار تقدم حركة “23 مارس” واستيلائها على المزيد من الأراضي، في تجاوز واضح لقرار وقف إطلاق النار الذي تم التوصل له في أغسطس/ آب 2024، في لواندا. كما يعد استيلاء الحركة على مدينة غوما في يناير/ كانون الثاني 2025 ومدن أخرى من بينها بوكافو وكسنغاني رصاصة الرحمة لقرار وقف إطلاق النار وفشل عملية لواندا.

عملية نيروبي

أُطلقت عملية نيروبي للسلام في جمهورية الكونغو الديمقراطية في أبريل/ نيسان عام 2022، بقيادة مجموعة شرق أفريقيا، وتقوم العملية على مبادئ الشمولية والحوار والقيادة الإقليمية والدعم الدولي، وتسعى لإشراك جميع أصحاب المصلحة بما في ذلك حكومة جمهورية الكونغو الديمقراطية، والجماعات المسلحة، ومنظمات المجتمع المدني، والمجتمع الدولي، والدول المجاورة في إيجاد حلّ سلمي للصراع من خلال الحوار والتفاوض، مع التركيز على القيادة الإقليمية من مجموعة شرق أفريقيا.

عُيّن الرئيس الكيني السابق أهورو كنياتا من قبل رؤساء مجموعة شرق أفريقيا كميسّر ومنسق لقيادة عملية سلام شاملة تشمل حوارًا سياسيًا وتدخلات عسكرية وضمان شمولية الحوار بين الأطراف الكونغولية، كما تم لاحقًا تشكيل خلية من فريق من الشخصيات البارزة، ونشر المبعوثين الخاصّين.

اتخذت القمة العادية لمجموعة شرق أفريقيا رقم 22، التي انعقدت في أروشا في يوليو/ تموز 2022، قرارًا بنشر القوة المشتركة لحفظ السلام في شرق الكونغو الديمقراطية، وتم تنفيذ قرار إرسال القوات المشتركة في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، ولكن فشلت القوة في تحقيق مهامها. فقررت المجموعة في اجتماع القمة العادية رقم 23، التي عقدت بتاريخ 24 نوفمبر/ تشرين الثاني في أروشا، عدم تجديد ولاية القوة، وبحلول 8 ديسمبر/ كانون الأول 2023، بدأ سحب القوة وتسليم المناطق التي كانت تحميها للجيش الكونغولي.

على الرغم من أن عملية نيروبي استطاعت جمع عدد من الحركات المسلحة في شرق الكونغو الديمقراطية مع وفد من الحكومة الكونغولية في محادثات استمرت لأيام في نيروبي برعاية ميسّر عملية السلام أهورو كنياتا، فإن المحادثات لم تتوصل لنتائج ذات قيمة كبيرة بسبب غياب حركة “23 مارس”، أبرز الحركات المتمردة.

دمج عمليتي “نيروبي” و”لواندا” في مسار واحد

أعلنت القمة المشتركة لمجموعة شرق أفريقيا، ومجموعة تنمية الجنوب الأفريقي (سادك)، خلال القمة الافتراضية التي انعقدت برئاسة مشتركة بين الرئيسين الكيني والزيمبابوي يوم الثلاثاء 25 مارس/آذار 2025، وبمشاركة الرئيسين الكونغولي والرواندي، دمج عمليتي “نيروبي” و”لواندا” في مسار واحد، والعمل على تسريع الوساطة الأفريقية من خلال إضافة أربعة رؤساء أفارقة سابقين لفريق الوساطة، وهم: الرئيس النيجيري السابق أوليسغون أوباسانغو، رئيسة إثيوبيا السابقة سهلي وورك زودي، كاثرين بانزا رئيسة أفريقيا الوسطى السابقة، وكاجليما موتلانثي رئيس جنوب أفريقيا السابق. ووجّهت القمة الوساطة بوضع خارطة طريق واضحة لتحقيق السلام الشامل في الكونغو الديمقراطية.

صفقة ترامب – الكونغو، هل تؤدي إلى تقويض مصالح جنوب أفريقيا في الكونغو الديمقراطية؟

في ظل الأنباء المتواترة عن رغبة كل من إدارة “ترامب” والحكومة الكونغولية في إبرام اتفاق لاستثمار المعادن الكونغولية مقابل تقديم مساعدات أمنية وعسكرية أميركية للكونغو الديمقراطية، فإن نفوذ ومصالح جنوب أفريقيا في الكونغو الديمقراطية قد يتعرضان للتهديد، لا سيما في ظل التوترات الدبلوماسية المتزايدة بين “واشنطن” و”بريتوريا”، كما قد يشكل الاتفاق المذكور من جهة أخرى دفعة لرواندا بصورة غير مباشرة في سياق خلافها الدبلوماسي مع جنوب أفريقيا.

مسار الدوحة، موازٍ أم مكمل؟

من المقرر أن تستضيف الدوحة يوم الأربعاء 9 أبريل/نيسان 2025، أول لقاء مباشر بين وفد من الحكومة الكونغولية ووفد من تحالف نهر الكونغو وحركة “23 مارس”، وذلك ضمن مسار الدوحة لمباحثات السلام في شرق الكونغو الديمقراطية، على ضوء ما تم الاتفاق عليه في لقاء القمة الثلاثي الذي استضافه سمو أمير دولة قطر يوم الاثنين 18 مارس/آذار الماضي.

وسبق لقاء الدوحة المرتقب توقيع قادة تحالف نهر الكونغو وحركة “23 مارس” وممثلين عن مجموعة (سادك) اتفاقًا في مدينة “غوما” يقضي بالانسحاب الفوري والكامل لقوات مجموعة (سادك) من مدينة “غوما”.

وأشارت مصادر دبلوماسية لوكالة رويترز إلى أن الوسطاء القطريين استضافوا في الدوحة يوم الجمعة 28 مارس/آذار 2025، جولة ثانية من المحادثات بين ممثلين من الحكومة الكونغولية والحكومة الرواندية وحركة “23 مارس”، بشكل منفصل، دون الخوض في تفاصيل ونتائج هذه الاجتماعات.

الخلاصة

تدخل جهود حل الأزمة الكونغولية – الرواندية في مسار جديد هو “مسار الدوحة”، ومع بداية جولات المحادثات الأولية بين الأطراف المتصارعة في الدوحة، ستحاول قطر إحداث اختراق في جدار الأزمة المعقدة والمتطاولة، وكان وزير الدولة بالخارجية القطرية د. محمد بن عبدالعزيز الخليفي، قد كشف بعد لقائه مع رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية في كينشاسا في فبراير/ شباط الماضي أن قطر تؤيد كافة المبادرات الإقليمية والدولية الهادفة لاستعادة الأمن والاستقرار في الكونغو الديمقراطية، مما قد يعني أن جهود “الدوحة” في الوساطة ستكون مكملة للجهود الأفريقية لحل الصراع، ولن تشكل مسارًا جديدًا منفصلًا.

وفي المجمل، يمكن القول إن من أسباب تعقيد حل الصراع في شرق الكونغو الديمقراطية وصعوبة الحل على الجهات الإقليمية للتوسط في الحل هي الأدوار المتقاطعة التي تلعبها الأطراف الإقليمية مثل أوغندا، وجنوب أفريقيا، وبوروندي، وأنغولا، حيث تنخرط هذه الأطراف بصورة مباشرة أو غير مباشرة في الصراع.

كما يؤدي تباين المصالح الجيوسياسية إلى تعقيد الصراع وإطالة أمده، يُضاف إلى ذلك تعدد مبادرات الحل، ومن بينها وساطة أنغولا، وعملية نيروبي، ودخول مجموعة شرق أفريقيا ومجموعة تنمية الجنوب الأفريقي (سادك) بقوات عسكرية، مما أجّج الصراع بدلًا من حلّه.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
© 2025 خليجي 247. جميع الحقوق محفوظة.
Exit mobile version