حين يغيب التفكير النقدي ويتراجع التعليم القائم على التحليل، يفقد الذكاء دوره في الإبداع، ويتحول إلى أداة للمراوغة، كما تتحول العاطفة من جسر للتعاطف إلى وسيلة للتلاعب.

وفي مجتمعات يسودها الاضطراب، لا يستبدل الجهل بالمعرفة، بل يستبدل المنطق بالحيلة، وتقدس الانطباعات على حساب الحقيقة، فتغدو السرعة بديلاً عن العمق، والمظاهر بديلاً عن الجوهر، والحلول المؤقتة قناعاً يخفي العجز عن مواجهة المشكلات من جذورها.

وهكذا، لا تلغى المعرفة، بل تزيف، فتصنع حقائق على مقاس الهوى، ويُلبس الجهل ثوب العلم.

لكن ثمة فرقاً بين الجهل والغباء؛ فالجهل هو نقص في المعرفة يمكن تجاوزه بالسعي إلى التعلم، أما الغباء فهو عجز عن الفهم، وقصور في القدرة على الربط والاستنتاج. غير أن الأخطر من كليهما هو الجهل المركب؛ حيث لا يكون الجهل مجرد غياب للمعرفة، بل وهمًا بالامتلاك الكامل لها. فيظن صاحبه بيقين أنه يعلم، بينما هو غارق في الوهم.

فالغبي لا يسعى إلى المعرفة لأنه لا يدرك قيمتها، أما الجاهل المركب فيقاومها، معتقداً أنه يملكها بالفعل. وبينما يعاني الغبي من كسل فكري يجعله عاجزاً عن البحث، يتحرك الجاهل المركب بثقة زائفة، ينشر أوهامه ويدافع عنها وكأنها حقائق مطلقة.

ولا يبقى الجهل المركب حالة فردية، بل يتحول إلى ظاهرة اجتماعية حين يتغلغل في منظومة الفكر، فتُعاد صياغة الحقائق وفق الأهواء، ويُقصى كل فكر ناقد، ويُمنح الصوت الأعلى لمن يردد المسلّمات دون مساءلة.

عندها، لا يكمن الخطر في نقص المعرفة فحسب، بل في تحصين الجهل ضد الاختراق؛ حين يصبح السؤال تهديداً، ويُعدّ التفكير النقدي نوعاً من التمرد.

وهكذا، لا يُسجَن الفكر بالقوة، بل يسجن نفسه طوعاً داخل قوقعة من اليقين الزائف، عاجزاً عن رؤية ما وراء أوهامه.

إن المعرفة الحقيقية لا تبدأ من وهم الامتلاء، بل من الاعتراف بالنقص، ولا تتجلى في إجابات يقينية، بل في تساؤلات مفتوحة.

فمن أدرك جهله، بدأ طريق العلم، أما من ظن أنه يعلم كل شيء، فقد أغلق على نفسه أبواب الفهم.

وفي عالم يغرق في الزيف، يصبح الصمت شكلًا من أشكال التواطؤ، ويغدو السؤال سلاحًا لكسر القيود الفكرية.

فالشك ليس عدو الحقيقة، بل أولى درجات الوصول إليها، والحقيقة لا تُمنح لمن يظن أنه يمتلكها، بل لمن يسعى إليها، متجردًا من خوفه وغروره في آنٍ واحد.

أخبار ذات صلة

 

شاركها.
© 2025 خليجي 247. جميع الحقوق محفوظة.
Exit mobile version