هناك من يشتكي من هزال الفنون، ويرون أن تقوية ذلك الهزال بحاجة ماسة إلى حرب مدمرة تعيد المأساة الإنسانية إلى الواجهة وفي هذا الرأي (شطط التطرف أو أنه تدليس محض)، ومع الادعاء أن الحرب تعيد توضيب السلوك العالمي، وتأسيس قواعد أخلاقية جديدة!، ليفرح أولئك المنادون بحرب شاملة، فالواقع الراهن يبشر بتلك الحرب، فنحن نعيش واقع ارتباك المفاهيم السياسية، ونتخوف من إطالة المراوغات الكلامية المؤدية إلى وقوع اختلاف حاد بين المصلحة الوطنية وبين الدخول في ذلك الارتباك، لإحداث حرب شاملة، وتلك الحرب تأتي من كسر العمود الفقري للمجتمعات، والسطو على الممتلكات، والحقوق، وجعل الحق باطلاً، والباطل حقاً لما تعانيه أجزاء أو جزء من هذه الخارطة الجغرافية، والرئيس ترمب يشدد ضرباته على فقرات عظمية إن أصابها فحتماً سوف يكسر ذلك العمود الفقري المؤدي إلى حرب شاملة.
وليس من الفطنة الدخول إلى فرن عالي الحرارة كي نؤكد أن الحرب تنتج فناً عظيماً.
وكذلك لسنا في حاجة إلى مسرحية (جنرال الشيطان) التي ركز فيها كارل تسوكماير على الماضي النازي المرتهن على الصراع بين الضمير والطاعة، وتفسّخ الأخلاق التي ولدت ذلك الوحش النازي المدمر للبشرية، كما أننا لسنا في حاجة إلى لوحة تشكيلية تمتدح قرارات الرئيس ترمب، أو ترفضها.
نعم الواقع به مسرحيات عديدة لا نكتشف أبطالها إلا بعد أن تدهسنا دواليب لعربة خشبية، كما أننا لن نُخدع بروايات تُوصف بالإبداع بعد موت الملايين، وهذا ما تفعله الأعمال الفنية والأدبية بعد حدوث الدمار، فتكون كالنائحة المستأجرة، تقيم بكائية لمن لا تعرفه، وبمثل هذه الصورة يكون منتج الفنان أو الأديب بعد (حرق مالطا) فالأعمال الفنية الخارجة من أتون الحروب، وأبشع تمثيل لتلك الحالة ما يفعله حيوان (الضبع) الذي يعيش على الجيف بينما لا يكون له دور أمام الأحياء، أو يكون أشبه بعمل (المتسبب) الباحث في الأنقاض عن أي شيء يجده ليبيعه.
فما يُكتب من رواية أو شعر بعد أي دمار – حربي – يكون المنتج كتوزيع شطائر مكوناتها الرئيسية دم متلبد.
وحين تعود الذاكرة للمنتج الأدبي بعد الحرب العالمية الثانية، وبقليل من التروي تكتشف الحقيقة المرة المتمثلة في تأخر الأدب عن الواقع، فالاستشراف كان كليل البصيرة، ومهما كانت روعة المكتوب عن الدمار إلا أنه لا يفي أو لا يحيط بحجم كارثة الحروب، فلوم الروائي الألماني هاينريش بول في رواية (صورة جماعية مع السيدة) بأن الحرب كسرت القيم والمثاليات إلا أن قيام الحرب هو الكسر الفعلي للإنسانية، فهاينريش لم يأتِ منتجه الأدبي إلا لاحقاً للحرب، وللدمار، فكيف أسس لومه؟، لم يكن هناك تأسيس للوم أو الحزن، فمثله روائيون كثر كانت كتاباتهم ردود فعل لما أحدثته الحرب من دمار، وحين كتب الروائي غونتر غراس رواية (الطبل والصفيح) أراد لذاته ألا تكبر، وليس بطل روايته هو المعني بذلك، هو أراد بتلك الحيلة السردية البقاء في أزمة وأزمنة الحرب لكي يتماسك حيال انكسار الذات وعدم تلاؤمها مع ما حدث، كما أن روايته (سنوات البؤس) جاءت لاحقة في تجسيد بؤس الكتابة الإلحاقية، المتأخرة تأكيداً على عجزها عن استشراف ذلك الدمار.
كل الآداب والفنون اللاحقة للحروب ما هي إلا صور فوتوغرافية أُخذت بعد وقوع الدمار، إلا أن تلك الأعمال الأدبية والفنية صور تزين مدخل مقهى لاحتساء مشروب عتيق، وتوهمنا على طقاقات الكؤوس أن الصور المأخوذة كانت جميلة في حلتها الأدبية، وقاسية في تجسيد ما حدث، وشاهدة على أن الحرب هي تفتيت للإنسانية. وكلما تبعدنا عن زمن الحرب نتواطأ على الجماليات الفنية عما كتب عن كوارث الحروب.
الآن، ونحن نعيش تموجات الحروب المتناثرة – والتي يمكن لها أن تصبح شاملة – إلا أن ما سوف تنتجه من أدب وفن سيكون فطائر إفطار للأجيال القادمة تحمسهم على تناولها بتلذذ، وعلى أنها الإبداع الحقيقي لهذه الفترة الزمنية.
نعم، سوف تخرج تلك الحروب الطاحنة فنوناً، سوف يحمل منتجوها أوصافاً وألقاباً إبداعية، وسوف ترتفع الأصوات بأنهم ناصروا يقظة الضمير الإنساني – في الجانبين- إلا أن الحقيقة هي: موت الإنسان تحت وطأة قصف المدافع والقنابل المتفجرة، والطائرات المسيّرة، وحقاً، لم يكن للمتحاربين ضمير إنساني أثناء كل الحروب، فليست هناك إنسانية في فترة الحرب ذاتها، أو بعد انتهائها.
الواقع الجاف يُخلط بجماليات زائفة تتزين بالإنسانية طوال الوقت حتى وإن كانت صورية أو مغشوشة فالأحداث الجارية – في حينها – غير إنسانية البتة.
ولو تفرد بك صحفي سائلاً عن أهم الروايات أو الأفلام السينمائية التي حازت على إعجابك شريطة أن تكون منتجاً للحرب العالمية الثانية، فما الذي يمكنك قوله؟
هنا يكون السؤال باذخ الاسترخاء، اكتسب برودة الوقت، وتجمد الآهات، وتلبد الجراح، لابتعاده عن لهيب وشظايا فزع تلك الحرب المدمرة، فالحوار خارج دائرة الدمار الذي أحدثته الحروب، وإن أراد الصحفي مد مساحة الألم بذكر أفلام أو روايات جسدت تلك الكارثة الإنسانية، فسوف يأتي بأمثلة عديدة لذلك المنتج الفني، وتستطيع دفع السؤال بالتأكيد أن الحرب هي مقصلة الوقت، والأفراد معاً، وأنها الثنائي الحقيقي للحياة فهي دفانة لها، مثلها مثل الكبد يكون مقبرة ومفرخة في نفس الوقت.
فلماذ الوقوف على المنتج الأدبي والفني للحروب الشاملة؟
فالسؤال الحقيقي هو: لماذا لا تموت الحرب عبر الأزمان، فعمرها مديد ولم تشِب، ففي كل فترة زمنية تتولد، وتضع كل ابن لها في رقعة جغرافية من الأرض، الحرب نتاج رغبة إنسانية تولد الدمار، والثنائية تحمل بذرتين (الحياة والموت) كل منهما تنشط لتحقيق غاياتها.
أخبار ذات صلة