في بنية أي مجتمع، تعد الأسرة الركيزة الأساسية التي يقوم عليها استقراره وتماسكه. ومن هذا المنطلق، فإن أي نظام قانوني يتعامل مع الأحوال الشخصية لا بد أن يوازن بين ثبات القواعد ومرونة التطبيق، بحيث يحفظ الحقوق دون أن يجور على الواقع المتغير، ويحمي الأفراد دون أن يخل بميزان العدالة. نظام الأحوال الشخصية الجديد في المملكة العربية السعودية جاء ليؤكد هذا التوازن، متخذاً من حماية الأسرة هدفاً رئيسياً، ومن تحقيق العدالة وسيلة لا غاية، واضعاً ضوابط واضحة تحكم العلاقات الأسرية، بحيث لا تكون الحقوق محل اجتهاد يختلف باختلاف الظروف، بل منظومة قانونية راسخة تراعي المصلحة العامة دون أن تهمل خصوصية الأفراد.

من أبرز ما جاء به هذا النظام التأكيد على مصلحة المحضون كأولوية في قضايا الحضانة، حيث منح الأم حق الحضانة حتى لو تزوجت من رجل أجنبي، طالما أن المحضون لم يتجاوز سن السنتين. هذه القاعدة تنسجم مع المبادئ القانونية العامة التي تجعل مصلحة الطفل هي الأساس في أي نزاع، وتؤكد على أن الحقوق لا يجب أن تكون أداة للمساومة، بل إطاراً يضمن حياة مستقرة للمحضون. كما أن هذا التوجه يعكس إدراك المشرّع لحقيقة أن الحضانة ليست امتيازاً لأحد الأبوين بقدر ما هي مسؤولية يقتضيها حق الطفل في الرعاية والنشأة السليمة.

أما في إطار العلاقة الزوجية، فقد عزز النظام حق الزوجة في طلب فسخ عقد الزواج إذا امتنع الزوج عن المعاشرة الزوجية، مع التأكيد على أن سكوتها لا يعني تنازلها عن هذا الحق. هذه القاعدة تؤصل لمبدأ أن الحقوق الزوجية لا تُبنى على الصمت أو التراكمات غير المعلنة، بل يجب أن تكون قائمة على الوضوح والقدرة على المطالبة بالحقوق دون خوف من التبعات الاجتماعية أو القانونية.

وفي ما يتعلق بالجوانب المالية، وضع النظام ضوابط واضحة في ما يخص تقدير مهر المرأة، بحيث يكون مرتبطاً بما تحصل عليه قريباتها من جهة الأب والأم، مما يحد من المبالغات التي قد تفرغ عقد الزواج من مضمونه الحقيقي كميثاق قائم على المودة، وتحوله إلى معادلة مالية تخضع لاعتبارات المبالغة أو التقليل من قيمة المرأة. كما حدد النظام موقفاً واضحاً من نفقة السكن، حيث لا يحق للحاضن المطالبة بأجرة السكن إذا كان السكن مؤمناً له، لكنه يستحق نفقة السكن للمحضون إذا لم يكن هناك مسكن مملوك أو مخصص له، وهو ما يعكس نهجاً قانونياً متزناً يراعي العدالة في توزيع الالتزامات المالية داخل الأسرة.

أخبار ذات صلة

 

ما يميز هذا النظام أنه لا يتعامل مع الأسرة بوصفها علاقة تقليدية تحكمها العادات والأعراف فقط، بل ككيان قانوني له حقوق وواجبات محددة، مما يضمن أن تكون القرارات التي تصدر في القضايا الأسرية قائمة على محددات قانونية واضحة لا تخضع للأهواء الشخصية أو لاجتهادات قد تفتقر إلى الموضوعية. كما أنه يرسخ مبدأ حماية الطرف الأضعف في المعادلة الأسرية، سواء كان طفلاً يحتاج إلى رعاية، أو زوجة تحتاج إلى حماية حقوقها، أو حتى زوجاً قد يكون في موقف يتطلب دعماً قانونياً يحفظ توازنه الأسري.

إن نظام الأحوال الشخصية الجديد يمثل مرحلة متقدمة في التشريع السعودي، فهو ليس مجرد مجموعة من المواد القانونية، بل انعكاس لرؤية قانونية حديثة تستهدف تحقيق الاستقرار الأسري، وتعزيز ثقافة الحقوق والواجبات، وتقليل النزاعات الأسرية عبر آليات واضحة تحكم العلاقات داخل الأسرة. وهذا التوجه يؤكد أن القانون ليس أداة للعقاب، بل وسيلة لتنظيم الحياة وضمان استقرارها، بحيث تكون العدالة هي القاعدة، والاستثناءات مقيدة بمعايير تحكمها المصلحة العامة.

بهذا الفهم، يصبح النظام الجديد ليس مجرد نص قانوني، بل وثيقة تُرسي قواعد العدالة داخل الأسرة السعودية، وتعكس تطور التشريع بما يتماشى مع التغيرات الاجتماعية والاقتصادية، لتكون الأسرة في قلب التنمية المستدامة، وليكون القانون في خدمة الإنسان، لا عبئاً عليه.

شاركها.
© 2025 خليجي 247. جميع الحقوق محفوظة.