“غزة دايت” هي آخر ما تمخضت عنه آلة الإبادة الإسرائيلية التي تشن منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 حربا ضد القطاع الفلسطيني المنكوب.

وتشير معطيات متعددة إلى أن إسرائيل تستخدم الغذاء سلاحا، عبر التحكم في ما يدخل من سعرات حرارية إلى القطاع المحاصر وتقليلها لأقصى حد، مما يقود إلى تغيرات صحية وبدنية، وصولا إلى المجاعة التي تهدد غزة.

لكن حرب السعرات الحرارية لم تبدأ منذ عام 2023، بل تعود إلى 2007 عندما قررت إسرائيل حصار غزة والتحكم فيما يدخلها من مواد غذائية.

دعونا نبدأ القصة مع تقرير نشرته غارديان البريطانية عام 2012، يقول إن الجيش الإسرائيلي أجرى حسابات دقيقة لاحتياجات غزة اليومية من السعرات الحرارية لتجنب سوء التغذية خلال الحصار المفروض على القطاع الفلسطيني بين عامي 2007 ومنتصف 2010، وفقا لملفات نشرتها وزارة الدفاع.

ومع أن إسرائيل قالت وقتها إنها لم تحدد قط عدد السعرات الحرارية المتاحة لغزة، لكن الوثيقة دليل على أن حكومة الاحتلال حدت من إمدادات الغذاء للضغط على حركة المقاومة الإسلامية (حماس).

وفي ذروة الحصار، احتفظت إسرائيل أيضا بقائمة بالأطعمة المسموح بها والممنوعة من غزة.

مستشفى ناصر في خان يونس جنوب قطاع غزة يوم 10 يوليو/تموز 2024 (الفرنسية)

تقييد كمية الغذاء

ووقتها خاضت منظمة “غيشا” الإسرائيلية، التي تهدف إلى حماية حقوق السكان الفلسطينيين، معركة قضائية طويلة لنشر الوثيقة. ويقول أعضاؤها إن إسرائيل حسبت احتياجات سكان غزة من السعرات الحرارية لتقييد كمية الغذاء التي تسمح بدخولها.

وقد فرض الجيش الإسرائيلي الحصار بعد تصنيف غزة “كيانا معاديا” في سبتمبر/أيلول 2007، ويهدف القرار لفرض قيود صارمة على المدنيين، وقالت إسرائيل إن الحصار ضروري لإضعاف حماس. لكنه في الواقع شكل عقابا جماعيا ضد سكان غزة.

وقالت منظمة غيشا “كان الهدف الرسمي لهذه السياسة هو شن حرب اقتصادية من شأنها شل اقتصاد غزة”.

ووفقا للوثيقة، فإن حساب الغذاء -الذي أجري في يناير/كانون الثاني 2008- اعتمد على متوسط ​​الاحتياجات اليومية البالغة 2279 سعرة حرارية للشخص الواحد.

كما استخدمت إسرائيل إرشادات سرية محيرة للتمييز بين الضروريات الإنسانية والكماليات غير الضرورية. وكانت النتيجة أنها سمحت بدخول سمك السلمون المجمد والزبادي قليل الدسم إلى غزة، لكنهم لم يسمحوا بدخول الكزبرة والقهوة سريعة التحضير.

وعند نشر الوثيقة، صرح وقتها فوزي برهوم (المتحدث باسم حماس) بأن الوثيقة “دليل على أن حصار غزة كان مخططا له، وأن الهدف لم يكن حماس أو الحكومة، كما ادعى الاحتلال دائما. وهذا الحصار استهدف جميع البشر”. وقال برهوم إنه “يجب استخدام هذه الوثيقة لمحاكمة الاحتلال على جرائمه ضد الإنسانية في غزة”.

وهذا يؤكد أن حرب السعرات الحرارية سلاح ليس جديدا، ولم تبدأ إسرائيل استخدامه في أكتوبر/تشرين الأول 2023.

انعدام الأمن الغذائي

في عام 2017 وجدت تقديرات مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة أن 40% من أسر غزة تعاني من انعدام الأمن الغذائي، وأن 80% من السكان يعتمدون على المساعدات الخارجية للبقاء على قيد الحياة.

ووفقا لإسرائيل، يحتاج الفلسطينيون إلى فواكه وخضراوات أقل بنسبة 37% من الإسرائيليين، ولحوم أقل بنسبة 19% من الإسرائيليين، ومنتجات ألبان أقل بنسبة 43% من الإسرائيليين، وفقا لتقرير نشره موقع “فيجوولايزينغ بلستاين”.

​​245 سعرة حرارية يوميا

في أبريل/نيسان 2024 كشف تقرير صادر عن منظمة أوكسفام الدولية أن سكان شمال غزة مجبرون على العيش بمتوسط ​​245 سعرة حرارية يوميا، أي أقل مما تحتويه علبة فاصوليا.

وقالت المنظمة وقتها إن هذه الكمية الضئيلة من الطعام تمثل أقل من 12% من الكمية اليومية الموصى بها للفرد والبالغة 2100 سعرة حرارية وتم حسابها باستخدام بيانات ديموغرافية تأخذ في الاعتبار الاختلافات حسب العمر والجنس.

واستند تحليل أوكسفام إلى أحدث البيانات المتاحة المستخدمة في تحليل التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي “آي بي سي” (IPC) لقطاع غزة. كما وجدت أوكسفام أن إجمالي شحنات الغذاء المسموح بدخولها غزة لسكانها البالغ عددهم 2.2 مليون نسمة -منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 وحتى تاريخ نشر تقريرها في أبريل/نيسان 2024- بلغ في المتوسط ​​41% فقط من السعرات الحرارية اليومية اللازمة للفرد.

وقال التقرير إن الأطفال يموتون بالفعل من الجوع وسوء التغذية، وغالبا ما تتفاقم حالتهم بسبب الأمراض.

قرارات متعمدة لتجويع المدنيين

وقال أميتاب بيهار المدير التنفيذي لأوكسفام “تتخذ إسرائيل قرارات متعمدة لتجويع المدنيين. تخيلوا كيف يكون الحال، ليس فقط أن تحاولوا البقاء على قيد الحياة بـ245 سعرة حرارية يوميا، بل أيضا أن تشاهدوا أطفالكم أو أقاربكم المسنين يفعلون الشيء نفسه. وكل ذلك في ظل نزوحهم، مع ندرة أو انعدام الوصول إلى المياه النظيفة أو المراحيض، مع علمهم بأن معظم الدعم الطبي قد انقطع، تحت التهديد المستمر بالطائرات المسيرة والقنابل”.

وأضاف “تتجاهل إسرائيل أمر محكمة العدل الدولية بمنع الإبادة الجماعية وقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة”.

65 ألف طفل يواجهون الموت بسبب سياسة التجويع الإسرائيلية

وقد حذرت حكومة غزة يوم الجمعة من أن أكثر من 65 ألف طفل معرضون لخطر المجاعة الوشيك بسبب الحصار الإسرائيلي، وإغلاق الإمدادات الأساسية لقطاع غزة لمدة شهرين كجزء من حملتها الإبادة الجماعية على القطاع الفلسطيني.

وقال مكتب الإعلام في غزة في بيان “إن الاحتلال الإسرائيلي يدبر مجاعة تودي بحياة المدنيين، ويواصل ارتكاب جريمة ممنهجة بحق 2.4 مليون إنسان من خلال إغلاق المعابر ومنع 39 ألف شاحنة مساعدات تحمل الغذاء والوقود والأدوية، في انتهاك صارخ للقانون الدولي”.

وأضاف أن جميع المخابز متوقفة عن العمل منذ 40 يوما، مما يحرم المدنيين من الخبز.

وأضاف “يواجه أكثر من 65 ألف طفل خطر الموت جوعا بسبب سوء التغذية، حيث تستخدم إسرائيل الجوع سلاحا ضد المدنيين”.

وأشار البيان إلى أن 70 يوما من الإغلاق الإسرائيلي الكامل للمعابر قد فاقم انهيار النظامين الإنساني والصحي في غزة.

وحث مكتب الإعلام في غزة المجتمع الدولي والأمم المتحدة على التدخل العاجل لوقف الحصار، وإعادة فتح المعابر، والسماح بتدفق المساعدات والمواد الأساسية إلى غزة.

ويأتي هذا البيان في الوقت الذي انتقد فيه مسؤولون أمميون يوم الجمعة بشدة خطة المساعدات الإنسانية التي اقترحتها إسرائيل مؤخرا لغزة، محذرين من أنها قد تفاقم معاناة المدنيين وتفشل في تلبية المعايير الإنسانية الأساسية.

وقد أبقت إسرائيل معابر غزة مغلقة أمام المساعدات الغذائية والطبية والإنسانية منذ الثاني من مارس/آذار، مما فاقم الأزمة الإنسانية المتفاقمة أصلا في القطاع، وفقا لتقارير حكومية وحقوقية ودولية.

وجبة واحدة يوميا

وفي أبريل/نيسان الماضي، قال تقرير نشره موقع الأمم المتحدة “أصبح العيش على وجبة واحدة يوميا، واستنفاد الحصص الغذائية المتناقصة بسرعة، واقعا يائسا في قطاع غزة، حيث تمنع المساعدات الإنسانية منذ ما يقرب من شهرين”.

ويواصل العاملون بالمجال الإنساني تحذيرهم من انتشار الجوع وتفاقمه في القطاع المحاصر، في ظل الحصار، وقيود الوصول، والعمليات العسكرية الإسرائيلية المستمرة.

وقد شاركت الأونروا شهادة امرأة تدعى أم محمد، تقيم في ملجأ بمدينة غزة، وتحضر الطعام لـ11 فردا من عائلتها يوميا. ورغم أنها لا تزال تملك بعض الدقيق، فإن معظم العائلات المجاورة قد نفد مخزونها بالفعل.

وقالت “عندما أعجن وأخبز، أشعر بالخجل الشديد من نفسي، لذلك أوزع بعض الخبز على الأطفال الذين يطلبون قطعة خبز”.

وأضافت “نتناول وجبة واحدة يوميا، ونتقاسم الخبز بين كل فرد يوميا. نأكل المعلبات والعدس والأرز. وعندما ينفد هذا المخزون، لا أعرف ماذا سنفعل لأن ما هو متوفر في السوق نادر”.

ومنذ يناير/كانون الثاني، تم تسجيل حوالي 10 آلاف حالة سوء تغذية حاد بين الأطفال، بما في ذلك 1600 حالة سوء تغذية حاد وخيم.

وعلى الرغم من توافر إمدادات العلاج في الجنوب، فإن الوصول إليها لا يزال يمثل تحديا بالغا بسبب القيود التشغيلية والأمنية.

وقد أكد مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية أن نفاد المخزونات الأساسية في غزة يتجاوز بكثير مسألة الغذاء. فعلى سبيل المثال، تنفد الإمدادات الطبية المتعلقة بالصدمات في وقت يتزايد فيه عدد المصابين في حوادث الإصابات الجماعية.

كما تفتقر غزة إلى الإمدادات الجراحية، بما في ذلك الستائر والقفازات. وأفادت منظمة الصحة العالمية “دبليو إتش أو” (WHO) بأن مستودعاتها قد نفدت من الحليب العلاجي والمضادات الحيوية الوريدية ومسكنات الألم، بالإضافة إلى قطع غيار سيارات الإسعاف ومحطات الأكسجين.

وأضاف الشركاء العاملون في مجال الصحة أن عددا متزايدا من الموظفين الأساسيين يمنعون من الوصول إلى غزة، مع تزايد حالات منع دخول فرق الطوارئ الطبية، وخاصة المتخصصين ذوي التخصصات العالية -بمن فيهم جراحو العظام والتجميل- وتقييد الحركة مؤخرا عبر القطاع.

العد التنازلي

ويقول تقرير لميثيل أغاروال -نشره موقع “إن بي سي نيوز” في 4 مايو/أيار الجاري- إن آلاف الأطفال في غزة قد أدخلوا إلى المستشفيات بسبب سوء التغذية، ومع تدهور حالتهم الصحية استنفدت خيارات الأطباء لعلاجهم.

وقال التقرير إن الأطباء بدؤوا العد التنازلي للأيام قبل أن تبدأ الوفيات البطيئة بسبب الجوع بالحدوث بشكل جماعي.

وفي تصريح لشبكة “إن بي سي نيوز” قال الدكتور أحمد الفرا رئيس قسم طب الأطفال والتوليد في مستشفى ناصر “في غضون أسبوع واحد، سنشهد مجاعة شديدة”.

ويشاهد الآباء الآن أطفالهم الضعفاء يتضورون جوعا، بعد أن أصبحت المستودعات فارغة وأجبرت المطابخ المجتمعية على الإغلاق. وفي مكان يعتمد فيه 80% من سكانه على المساعدات -وفقا للأمم المتحدة- لم تعد وكالات الإغاثة تملك الكثير لتقدمه.

ويحذر أطباء مثل الفرا من أن الجوع سيتحول إلى مرضٍ قاتل، وقد أصبح هذا التحذير حقيقة واقعة.

وقالت الفرا لشبكة إن بي سي نيوز “نتحدث عن 57 حالة وفاة بسبب الجوع في طب الأطفال” مضيفا أنه من المتوقع أن ترتفع الحالات ليس فقط في العدد، بل أيضا في الشدة. وأضاف “نحن نتحدث عن زيادة في حالات سوء التغذية وفقر الدم”.

ومازال الفلسطينيون في غزة يواجهون خطر سوء التغذية، في ظل القصف الإسرائيلي المستمر. ويعاني نظام الرعاية الصحية من ضعف الأداء، فلا تعالج حتى أخطر الإصابات، وتتحول أبسط الإصابات إلى إصابات قاتلة في غياب إمدادات الدم التي تستنزف أيضا بسبب الجوع.

وقد بدأ الجوع بالفئات الأكثر ضعفا ومنهم حديثو الولادة، والأطفال الذين يعانون بالفعل من أمراض أخرى هم الأكثر عرضة للخطر.

طريقة غير مكلفة صامتة ووحشية للقتل

وفي مقال لأحمد مور، نشر في صحيفة غارديان في 7 مايو/أيار الجاري، قال الكاتب إن “إسرائيل تجوع غزة. إنها طريقة غير مكلفة، صامتة، ووحشية للقتل”.

وقال الكاتب -وهو زميل في مؤسسة السلام بالشرق الأوسط- إن وزير الدفاع الإسرائيلي السابق يوآف غالانت يعد العقل المدبر لسياسة التجويع في غزة، والتي تتكشف تفاصيلها حاليا. وقد أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحقه، مشيرة إلى “أسباب معقولة للاعتقاد بأن السيد نتنياهو والسيد غالانت يتحملان المسؤولية الجنائية عن جريمة الحرب المتمثلة في التجويع كأسلوب من أساليب الحرب”.

وقد تبنى إسرائيل كاتس (خليفة غالانت) سياسة الأخير. وقد انتهك هو ونتنياهو وقف إطلاق النار مع حماس في مارس/آذار. ومنذ ذلك الحين، عملا جاهدين لتجويع سكان غزة حيث منعت القوات الإسرائيلية دخول الغذاء والدواء والإمدادات الأساسية اللازمة للحفاظ على الحياة البشرية إلى القطاع لأكثر من شهرين.

في 2 مايو/أيار، أصدرت منظمة العفو الدولية إشعارا عاجلا يقول “يجب على إسرائيل أن تنهي فورا حصارها المدمر لقطاع غزة المحتل، والذي يمثل إبادة جماعية، وشكلا صارخا من أشكال العقاب الجماعي غير القانوني، وجريمة حرب تتمثل في استخدام تجويع المدنيين كأسلوب حرب”.

وقال مور “يعتبر التجويع مغريا لمرتكبي جرائم القتل الجماعي لعدة أسباب، أولا لأنه غير مكلف. في حين أن قتل الناس قد يكون مكلفا، فالدبابات والقنابل والصواريخ والطائرات المسيرة والرصاص والأجهزة الحارقة جميعها تكلف أموالا طائلة لصنعها وتوزيعها. لكن التجويع لا يتطلب نفقات باهظة. (ولسان حالهم يقول): افرض حصارا وستحل البيولوجيا البشرية الباقي”.

وأضاف “إلى جانب رخص تطبيقه، فإن التجويع لا يحدث ضجة تذكر. وبالنسبة لأولئك الذين يسعون لإسكات ضحاياهم -كما فعلت إسرائيل بقتلها ما لا يقل عن 155 صحفيا فلسطينيا- والتعتيم على أفعالهم، يعد التجويع أداة مفيدة. فلا توجد حفر قنابل، ولا أطفال أو صحفيون محترقون. ولا توجد سوى جثث هزيلة. وبعد 18 شهرا من الظلام الذي يلف الفلسطينيين، لا يستحقون عناوين رئيسية كثيرة”.

وقال الكاتب إن التجويع طريقة بطيئة ومؤلمة للموت. بالنسبة للناجين، وخاصة الأطفال، يضعف مستقبلهم. ويتعطل النمو الطبيعي للدماغ والنمو الاجتماعي، وقد يكون التعافي مستحيلا في كثير من الحالات”.

وأضاف أنه في المراحل الأولى من المجاعة، يستخدم الجسم احتياطياته -عادة الدهون- للاستمرار. وبمجرد استنفاد هذه الاحتياطيات، وهي عملية تختلف من فرد لآخر، يبدأ الجسم في استهلاك نفسه. وتتقلص أعضاء مثل الرئتين والكبد والكلى قبل أن تبدأ هي الأخرى في التلف.

وأخيرا، تعد العضلات مخزن الطاقة الوحيد المتبقي، يلتهم الجسم بروتينه. وكما أوضحت الدكتورة نانسي زوكر مديرة مركز اضطرابات الأكل بجامعة ديوك -لإذاعة “إن بي آر” (NPR)- فإنه بمجرد أن تبدأ مخزونات البروتين في الاستهلاك “لا يكون الموت بعيدا”.

المصدر : الجزيرة + الصحافة الأميركية + وكالات + وكالة الأناضول

شاركها.
© 2025 خليجي 247. جميع الحقوق محفوظة.
Exit mobile version