في حياة الراحل عبدالله أحمد الثقفي، تتقاطع سيرة الفرد بسياق المؤسسة، وتتداخل ملامح المثقف مع تفاصيل الإداري، حتى يصعب فصل أحدهما عن الآخر. على مدى أكثر من ثلاثة عقود ونصف، تنقّل بين أروقة التعليم معلمًا وقائدًا ومشرفًا ومديرًا، لكنه في كل مرحلة لم يكن مجرد شاغل لمنصب، بل حاملًا لرؤية، وصوتاً مختلفاً في زحمة العاديين.

حين تولى إدارة تعليم جدة، لم يكن التحدي في إدارة مؤسسة مترامية فحسب، بل في صياغة هوية تعليمية ترتكز على القيم، لا على المراسلات. ولعل ما يُحسب للثقفي أنه لم يكن أسير البيروقراطية، بل كان يرى أن المدرسة كيان إنساني قبل أن تكون وحدة تنظيمية، وأن التربية لا تُقاس بالنتائج فقط، بل بالروح التي تُزرع في النشء.

كان يؤمن أن المعلم لا يؤدي وظيفة، بل يؤدي دورًا مجتمعيًا بالغ التأثير، وأن التعليم لا يقتصر على المقررات، بل يشمل السلوك، والانتماء، والوعي. من هذا المنطلق، كان وجوده في الميدان فعليًا، لا صوريًا. يسمع، يسأل، يناقش، ويقرّر بروح القائد الذي يرى في كل مدرسة مشروعًا وطنيًا لا موقعًا جغرافيًا.

بلغ تعليم جدة في عهده مرحلة من التميز لم تكن محض مصادفة، بل انعكاسًا لبنية إدارية تم بناؤها على أسس الشفافية والكفاءة والمساءلة. الجوائز التي حصدتها الإدارة كانت ثمرة نهج مؤسسي لا يرتكز على الإنجاز اللحظي، بل على استدامة التميّز. وكان لافتًا أن هذه النجاحات لم تكن على حساب الهدوء أو التواضع، بل جاءت متوازنة، متأنية، تحمل بصمة من لا يسعى للبروز بقدر ما يسعى لخلق أثر.

في سياق تعليم جدة، يشكل اسم عبدالله الثقفي، حلقة مهمة ضمن سلسلة من القيادات التي ساهمت في تطوير المشهد، بدءًا من الدكتور عبدالله الزيد، والدكتور خضر القرشي، ومرورًا بعبدالله الهويمل، وسليمان الزايدي، ووصولًا إلى منال اللهيبي اليوم، التي تمسك بزمام الإدارة في زمن متغير يفرض على التعليم تحولات نوعية.

غير أن ما يميز الثقفي، في نظر من عايشوه، ليس ما أنجز، بل كيف أنجز. كان حريصًا على ألا يُهمّش أحد، وأن تُدار المشكلات بروح الإنصاف لا بردود الفعل. لم تكن مواقفه صارخة، بل هادئة تحمل من الاتزان ما يجعل أثرها أعمق. وحين يصفه أحد زملائه بأنه «إذا دخل المكان خفّ الصخب، وإذا تكلّم أصغى الجميع»، فذلك ليس مدحًا عابرًا، بل هو توصيف لحالة نادرة من الحضور المهني والإنساني في آنٍ معًا.

برحيله، لم تُطو صفحة موظف انتهت خدمته، بل غاب رجل كان جزءًا من ذاكرة التعليم، ومن ملامح التحوّل الذي شهدته الإدارة التربوية في المملكة خلال السنوات الأخيرة. بقيت كلماته تتردّد، لا باعتبارها وصايا، بل كخبرةٍ ميدانية صادقة، وبقيت صورته محفورة في ذاكرة من رأوا فيه المعلم الأول، لا المدير الأخير.

عبدالله الثقفي، لم يحتج إلى خطب ولا شعارات ليقول ما يريد، كان يربّي بالصمت، ويقود بالحكمة، ويغرس دون أن يطلب التصفيق. ترك المكان… لكن لم يترك الوعي.

أخبار ذات صلة

 

شاركها.
© 2025 خليجي 247. جميع الحقوق محفوظة.
Exit mobile version