أبناء المملكة العربية السعودية ومن عاش فيها في ستينات القرن العشرين وسبعيناته أو من كان يصله إرسال الإذاعة السعودية في تلك الحقبة لا بد وأن سمع أغنية للمجموعة كان مطلعها يقول: «احرث وازرع أرض بلادك، بكره تمطر خير لأولادك، جاهد اسهر اغرس فيها، زرعك يثمر خذ واعطيها». هذه الأغنية المحفورة في ذاكرة أجيال من الناس لم تكن سوى مقدمة موسيقية صاحبت على مدى عقدين من الزمن البرنامج الإذاعي السعودي الفريد «الأرض الطيبة» الذي تولى الإعلامي والمؤرخ والأديب الينبعاوي عبدالكريم الخطيب تقديمه كل صباح عبر الإذاعة السعودية من عام 1964 وحتى إيقاف بثه عام 1982 حينما تراجع الاهتمام بالشأن الزراعي لصالح شؤون أخرى.

ولأن الخطيب هو صاحب هذا البرنامج المتميز الذي كان المستمعون يضبطون أوقات ذهابهم إلى أعمالهم ومدارسهم مع موعد تقديمه، ولأنه أيضاً صاحب بصمات مشهودة في مجال الإعلام السعودي المسموع بصفة عامة، ولأنه فوق ذلك أديب ومؤرخ قدم للمكتبة العربية العديد من المؤلفات، ارتأينا تذكير الناس به، من خلال توثيق سيرته، بعد أن طوى النسيان اسمه، وتقدم به العمر وصار يتكئ على عصاة في سيره. وسنستعين في الحديث عنه بما ورد في مقابلات صحفية قديمة أجريت معه، وبما جمعناه من قصاصات صحفية حول حياته، وببعض ما كتبه في مؤلفاته، ناهيك عما ذكرته الموسوعات والمعاجم الأدبية والتاريخية عنه.

قال عنه الإعلامي المعروف زهير الأيوبي، الذي زامله في إذاعة الرياض، إنه كان نموذجاً في العمل الدؤوب والانضباط بقواعده والالتزام بآدابه واخلاقياته، وأنه بسبب إخلاصه وعشقه لعمله كان يتناول غداءه وعشاءه في دار الإذاعة، بل ينام أحياناً فيها. وكتب عنه الكاتب أحمد الدويحي في «الجزيرة» (8/‏11/‏2014) قائلاً ما مفاده أن الخطيب وبرنامج الأرض الطيبة صنوان، إذا ذكر أحدهما فلا بد أن يتداعى الآخر إلى الذاكرة في الحال، وأن الرجل كان واحداً من ذلك الرعيل الأول الذي حفر في الصخر، ليشكّل له حضوراً ومستمعين عبر برنامجه الموجه إلى المزارعين، والهادف إلى التوعية، والحامل في اسمه بعداً عميقاً يعبر عما بين الأرض الزراعية المنتجة وفلاحيها الطيبين. وتحدث عنه صالح عبداللطيف عليان السيد في كتابه «أضواء على الشعر والأدب في ينبع»، فقال إنه شاعر متمكن مجيد، وأديب بارع يعبر عن واقع الحياة بأسلوب قصصي شيق، وأن له العديد من القصص والروايات الأدبية ذات الطابع الاجتماعي المميز، وأنه علاوة على ذلك مؤرخ نفض عن تاريخ ينبع غبار الزمن، وكان له قصب السبق في جمع تاريخ ينبع المبعثر من بطون الكتب؛ ولهذا يعتبر رائداً في هذا المجال.

ولد عبدالكريم محمود الخطيب بمدينة ينبع البحر على ساحل البحر الأحمر سنة 1933، ابناً لعائلة الخطيب ذي النسب الرفيع، وهي من عائلات ينبع العريقة المنحدرة من قبيلة جهينة المعروفة. وفي هذا السياق سجل عن شيخ جهينة سعد بن غنيم الجهني قوله إن صاحبنا: «يرجع بنسبه إلى آل هاشم من قريش، وبنو الخطيب بمصر والحجاز في عداد جهينة»، مضيفاً أن المؤرخ الإمام كمال الدين الأدفوني صاحب كتاب «الطالع السعيد في أسماء نجباء الصعيد» قد ضمن مؤلفه ترجمة لجدهم الخطيب. وللعلم فإن عبدالكريم الخطيب نفسه أصدر كتاباً عن أحد أجداده هو قائمقام ينبع «مصطفى بن محمد الخطيب» فقال: «تعود هذه الأسرة بنسبها إلى جدها الأكبر أحمد يوسف علم الدين الهاشمي نسباً، المكنى بالخطيب، المصدقة كنيته من أشراف قوص وأشراف قنا، كما صُدقت من إمام الأزهر في زمانه الشيخ محمد السبكي».

تلقى الخطيب علومه الأولية بمدارس ينبع، ومنها مدرسة «روضة» التي درسه فيها علامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر. كاد الرجل أن يذهب إلى مصر مبتعثاً بعد تخرجه من الابتدائية لمواصلة دراسته هناك لولا رفض والده. وقد سرد بنفسه خلاصة القصة لصحيفة «عكاظ» (2/‏4/‏2009) فقال (بتصرف): «قبل تخرجي من الابتدائية حضر إلينا كبير مفتشي مديرية المعارف الشيخ إبراهيم نوري فقال له مدير المدرسة وجدي طحلاوي: عندنا طالب نجيب ويكتب بشكل مميز، فطلبني وقال: اكتب لي في موضوعين: الصحافة والإذاعة وأثرهما في المجتمع، وبعد قراءته لما كتبت شكرني وقدم لي استمارة للالتحاق ببعثة خارجية في مصر، لكني لم أذهب لأن والدي رفض ذلك كوني ابنه الوحيد، فجلست عنده فترة في ينبع تعلمت خلالها فن اللاسلكي فعملت سكرتيراً لإدارة البرق والبريد، ولكني أصررت بعد حين على السفر وكان عمري 14 عاماً، فوافق الوالد بصعوبة، وتم التنسيق بينه وبين أقاربه ومعارفه من التجار في السويس كي يستقبلوني ويتفقدوا أحوالي ويرسلوا لي راتبي الشهري». ويضيف أنه سافر بالفعل إلى مصر والتحق هناك بمعهد تابع لجامعة القاهرة لدراسة الصحافة؛ لأن الجامعة لم يكن بها كلية للإعلام آنذاك، ثم عاد بعد سنتين حاملاً دبلوم الصحافة.

كان الخطيب قبل سفره إلى مصر مواظباً على قراءة المطبوعات المصرية التي كانت ترد إلى ينبع بواسطة باخرة البريد الخديوية كل يومين، فيتولى الشيخ ياسين أفندي الجداوي (عم الفنانة رجاء الجداوي) بيعها وتشجيع الطلبة على قراءتها، الأمر الذي أثر مبكراً في تكوينه الثقافي والمعرفي والخطابي. وعليه فإن تواجده في مصر أواخر الأربعينات ساهم في تعزيز شخصيته ومداركه من خلال تزوده بمطبوعات تلك الحقبة وقراءاته في مختلف الصحف والمجلات والروايات والكتب التي كان يشتريها من «سور الأزبكية».

حياته العملية بدأت بعد عودته من مصر بالالتحاق بالصحافة من خلال التعاون مساء مع صحيفة «البلاد» السعودية، لكنه شعر بأن فرصته في الإذاعة أفضل؛ بسبب عدم وجود كوادر إذاعية محلية كافية في تلك الفترة، فقدم طلباً بهذا الخصوص لمدير عام الإذاعة والصحافة والنشر آنذاك الشيخ عبدالله بلخير الذي أشار على الطلب بعبارة «هذا شاب متميز فاهتموا به». وعليه خاض صاحبنا لمدة شهر ونصف عملية التدرب على كتابة نشرة الأخبار، ليفاجأ بعدها بأن مدير الأخبار يرفضه كونه ليس من الدرعميين (وصف يطلق على خريجي كلية دار العلوم بمصر). يقول الخطيب إنه صُدم، لكنه كتم غيظه ولم يبلغ الشيخ بلخير بما حدث. وتشاء الصدف أن يلتقي بأحد أقاربه من كبار موظفي الجمارك الذي توسط له للعمل بوظيفة إحصائية في جمارك جدة، فقبل لحاجته رغم كراهيته للأرقام والحسابات. ومرة أخرى، وبعد نحو 6 أشهر، يتدخل القدر فيلتقي بمدير عام الإذاعة آنذاك عباس فائق غزاوي، وكان الخطيب يعرفه من تردده على ينبع لزيارة عائلة زوجته الينبعاوية، وكان غزاوي قد سمع باسم الخطيب من كتاباته الصحفية بجريدة البلاد.

ذلك اللقاء أرّخ لعودته إلى الإذاعة، ليتدرب هذه المرة على كتابة وتقديم وتسجيل البرامج الإذاعية من استوديوهات جدة، ولينفذ أول برامجه وكان بعنوان «من وهناك»، ويزامل بعض المذيعين المصريين واللبنانيين ممن أتى بهم الشيخ بلخير من إذاعة الشرق الأدنى بقبرص وأوائل الإذاعيين السعوديين، ومن بينهم ابن أخته وصديق طفولته مذيع الملوك «بدر كريم الجهني» الذي ساهم بتوجيهه وشاركه تقديم برامج مثل «زاوية الصحة» و«ركن الرياضة»، قبل أن يتناوب معه قراءة نشرات الأخبار على الهواء مباشرة بأمر من مديره غزاوي الذي وجد فيه خامة إعلامية جيدة وجديرة بالاهتمام والثقة بدليل أنه اختاره لاحقاً لتولي وظيفة مدير مكتب مدير الإذاعة خلفاً لناجي مفتي الذي صار فيما بعد سفيراً للسعودية في بيروت.

تولى الخطيب تقديم برامج إذاعية عديدة، بعد أن دربه الإذاعي المصري إسماعيل عبدالمجيد (أول من قدم برنامج «على الناصية» من إذاعة القاهرة وقبل آمال فهمي بسنوات) لكن أبرز ما قدمه الخطيب حتى ذلك الوقت وكان سبباً في شهرته هو برنامج «الأرض الطيبة». حول هذا الموضوع أخبرنا أنه بدأ بتقديم برنامج أسبوعي بعنوان «ركن المزارع» كان يعده بمجهوده الذاتي، واستمر على هذا المنوال لمدة سنة حتى سنة 1964، وبعدها تقدم بمقترح لإعداد برنامج يومي مدته 10 دقائق لتوجيه المزارعين باسم «الأرض الطيبة»، فأبدى وزير الزراعة آنذاك الشيخ إبراهيم السويل إعجابه بالفكرة. وهكذا قام قريبه د. خالد زارع بكتابة كلمات أغنية المقدمة، وأمر غزاوي بإرسال الكلمات إلى لبنان كي يلحنها العازف عبدالفتاح سكر، وانطلق البرنامج حاصداً الدعم والمؤازرة والإشادة، بل دخل صاحبه التاريخ كثاني مذيع عربي يعد ويقدم برنامجاً زراعياً، من بعد المذيعة المصرية فوزية المولد صاحبة برنامج الريف من إذاعة القاهرة، وقبل المذيع الأردني مازن القبج صاحب برنامج «الأرض الطيبة» من الإذاعة الأردنية.

المنعطف المهم الآخر في مسيرته كان انتقاله للعمل في إذاعة الرياض مع بدء إرسالها عام 1965 من مقرها بالملز، برفقة زميله صاحب الحنجرة الذهبية محمد الشعلان وبأمر من وزير الإعلام الشيخ جميل الحجيلان. وهذا الانتقال أتاح له تقديم برنامج مهم آخر محفور في ذاكرة الكثيرين هو برنامج «مجلس أبوحمدان» الدرامي الذي نجح في معالجة الكثير من القضايا والرواسب الاجتماعية، وكان يقدم بلهجة وسطى، ما بين الفصحى والعامية، على مدى 12 سنة.

أخبرنا الخطيب متحسراً أنه طلب إعفاءه من تقديم برنامجيه، حفاظاً على كرامته، بعد أن قام أحد تلامذته بصفته رئيساً لدورة إذاعية جديدة بإيقاف بثهما، مفسراً ذلك بالحقد ومحاربة الناجحين، لكنه يقول إنه اغتيل معنوياً؛ بسبب الجحود وقيام البعض بسرقة برامجه ونسبها لأنفسهم، أما مادياً فإن عمله حقق له بحبوحة من العيش بدليل أنه كان يتقاضى عن «الأرض الطيبة» 2,000 ريال شهرياً وعن «مجلس أبوحمدان» 3,000 ريال شهرياً.

في عام 1989 تقاعد الخطيب من العمل بوزارة الإعلام بعد أن جال بين وظائفها التي كان آخرها «مدير إدارة الأخبار والتحرير بوكالة الأنباء السعودية». وبالرغم من عروض قدمت له من إذاعة الشارقة وإذاعة سلطنة عمان للعمل معداً ومذيعاً، إلا أنه آثر البقاء في وطنه والاشتغال في التأليف والنشر من خلال دار أسسها هي «دار الخطيب للنشر والتوزيع»، مع مواصلة دراسته العليا حتى نال درجة الدكتوراه التي أهلته لخوض غمار العمل الأكاديمي في الجامعات السعودية.

يفتخر الخطيب بأنه قابل كل ملوك بلاده ابتداء بالملك المؤسس عبدالعزيز طيب الله ثراه، الذي شاهده يوم أن زار جلالته ينبع، وألقى أمامه نشيد «على الرحب يا رمز فخر العرب» من تأليف مدير مدرسته الابتدائية نورالدين فلمبان، فكوفئ بخمسة ريالات هديةً. ثم الملك سعود الذي قام صاحبنا بالسلام عليه في الطائف برفقة المذيع الخاص لجلالته بكر يونس فقال جلالته لبكر: «هذا رفيقك شفته من قبل»، فرد الخطيب: نعم سيدي عندما زرتنا في ينبع. ثم قابل الخطيب الملك فيصل برفقة الأديب عزيز ضياء وعباس فائق غزاوي، وبعد أن عرّفاه على جلالته تذكر برنامجه وخاطبه قائلاً: «احرث وازرع والله يبارك». وأما الملك خالد فقد زاره يوم أن كان وليّاً للعهد، وصلى معه صلاة المغرب، وناقشه جلالته في بعض البرامج التراثية. وأما الملك فهد فقد عرفه حينما كان وزيراً للداخلية يوم أن ذهب إلى مكتب جلالته سنة 1964 طالباً السماح له بالسفر إلى القاهرة التي كانت وقتها ممنوعة على السعوديين بسبب حرب اليمن والعلاقات المتوترة. يقول الخطيب إن الفهد قال له «احنا خايفين عليك لأنك تهاجمهم في الإذاعة»، فتم الاتفاق على منحه جواز سفر بديلاً لا يحمل لقبه، تفادياً لأي إشكالات.

مؤلفات وجوائز

للخطيب مؤلفات كثيرة منها: «رهين المحبسين، أبوالعلاء المعري بين الإيمان والإلحاد»، «شعراء ينبع وبنو ضمرة»، «الدين ضرورة الحياة»، «أدب من رضوى»، «تاريخ ينبع الموسع»، «شعراء ينبع وجهينة»، «شاعر من ينبع: حسن عبدالرحيم القفطي»، «شجرة الليمون» (مجموعة قصصية)، «تاريخ ينبع»، «رجال وأسر من ينبع في عصور مختلفة»، «هذه بلادنا: ينبع»، «أمير وتاريخ: أمير ينبع حمد بن عبدالعزيز العيسى»، «رجل وتاريخ: قائمقام ينبع مصطفى محمد الخطيب»، «بشهادة التاريخ بين المملكة العربية السعودية ومصر». كما أصدر خمس روايات اجتماعية هي: «سواد الليل»، «سفانة»، «حي المنجارة»، «سوق الليل»، «حي البحارة». إلى ذلك، له مقالات كثيرة واظب على نشرها في الصحف والمجلات السعودية ومثيلاتها في مصر ولبنان، ولا سيما «الصياد» و«الأحوال» و«صباح الخير».

في فبراير 2006 تم تكريمه في معرض الرياض الدولي ضمن المؤلفين السعوديين الرواد بحضور الملك سلمان (حينما كان أميراً للرياض)، ثم كرمه الملك سلمان مجدداً في عام 2019، لكن قبل ذلك حظي بالعديد من الجوائز والتكريمات، منها: جائزة أفضل برنامج زراعي في الشرق الأوسط من قبل منظمة الأغذية والزراعة الدولية سنة 1974، وجائزة مالية بالأمر السامي عام 1980م كأفضل معد برامج، وتكريم من قبل الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون بالرياض مع شهادة الريادة الثقافية من الرئيس العام لرعاية الشباب الأمير فيصل بن فهد، وتكريم من قبل النادي الأدبي بالمدينة المنورة، وتكريم واحتفاء من قبل إثنينية عبدالمقصود خوجة بجدة عام 2014.

أخبار ذات صلة

 

شاركها.
© 2025 خليجي 247. جميع الحقوق محفوظة.
Exit mobile version