يرى الباحث الفلسفي المغربي سعد أفوغال، أن إصلاح العقل ليس غاية تُراد لذاتها، وإنما قنطرة لا بد من عبورها لتعقيل الممارسة الدينية، تلك الممارسة التي تستحضر القيم والمعاني الأخلاقية، ولا تقف عند ظاهر الممارسات الدينية بما يحولها إلى طقوس مفرغة من أي معنى روحي، موضحاً، أن هناك أزمة عقل حقيقية اليوم، وممتدة منذ قرون، ومصاحبة للبشرية، ولا خلاص لها في ما اهتدت إليه البشرية في العلوم على كثرتها وأهميتها في تناول العقل من جوانب متعددة، وإنما خلاصها في كتاب الله عز وجل.

وأكد أفوغال، أننا في حاجة ماسة لجعل العقل مجاوراً للوحي، وليس مجاوزاً له، لأنه دون أن نستنبت العقل في تربة القرآن الكريم، فسيبقى عقلاً مهمشاً أو عقلاً مؤلهاً، وهذه هي التجربة التي عرفتها البشرية، إذا أردنا اختصار المسارات الحضارية والثقافية والفكرية، فالعقل إما مهمش أو مؤلّه، مشيراً إلى أن القرآن الكريم، أورد لفظة «العقل» في صيغها ومتصرفاتها المختلفة 49 مرة، هذا عدا مرادفاتها ومشابهاتها، مما يبرز الحضور الواسع والعريض لاستعمال العقل في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: {أفلا يعقلون} [يس/‏68]، وقوله: {لعلكم تعقلون} [البقرة/‏272]، وقوله: {وما يعقلها إلا العالمون} [العنكبوت/‏43] والله أراد للإنسان أن يفكر في كل ما تعرضه عليه الرسالات، ويقدمه إليه الرسل من آيات الله ودلائل قدرته ومواقع عظمته ونعمته، مما يمثل الحجة عليه في خط الشريعة لأن الله يتعامل مع الإنسان من خلال عقله الذي أعده ليرشده إلى الحق، وليقوده إلى المعرفة الواعية المنفتحة على حقائق الحياة في دلالاتها ونتائجها، وهذا هو المنهج القرآني الذي أراده الله للإنسان عقلاً وإرادة وحركة ومسؤولية في الحاضر والمستقبل.

سوء الظن بالعقل

وعدّ من أبرز مظاهر أزمة العقل المسلم المعاصر، سوء الظن بالعقل، على اعتبار أن جرأة العقل وانطلاقه وإفساح المجال له سيؤدي للتشكيك في الإيمان، والإضرار به، وبالعكس فإن الذي يتضرر من العقل، هي العقيدة الخرافية غير المؤسسة على الدليل، وغير المبنية على العلم الشرعي وعلى الوحي الصحيح بالنصوص المضبوطة. أما العقل، فهو خير سند للإيمان، إذا كان إيماناً صحيحاً. والقرآن الكريم خير مثال على هذا التساند، وهذا التكاثف بين العقل والإيمان، ويبرز ذلك جلياً في آيات القرآن، وفي سير الأنبياء ومواقفهم، وهذه ليست دعوى إلى العودة لتأليه العقل كما عبرت بذلك فلسفة الحداثة، فإن هذا الأمر مُتجاوز، فنحن نسلم بأن العقل ما هو إلا جزء بسيط من كينونة النفس البشرية ولا يشكل إلا جزءاً من عشرة بتعبير فرويد، وإنما هي دعوى لإعطاء العقل حقه ومكانته في السؤال والنقد، والتعبير عما يدور في خوالجه، باتزان وضبط، دون المبالغة في الثقة المطلقة فيه وحده، فالعقل البشري حين يتحرك في إطار الوحي، لا يتحرك في مجال ضيق، إنما يتحرك في مجال واسع جداً.. يتحرك في مجال هو هذا الوجود كله، الذي يحتوي عالم الشهادة وعالم الغيب أيضاً، كما يحتوي أغوار النفس ومجالات الحياة جميعاً.. فالوحي لا يكف العقل عن شيء إلا عن انحراف المنهج، وسوء الرؤية والتواء الأهواء والشهوات، وبعد ذلك يدفعه إلى الحركة والنشاط دفعاً. فهذه الأداة العظيمة التي وهبها الله للإنسان.. العقل.. إنما وهبها له لتعمل وتنشط في حراسة الوحي والهدى الرباني.. فلا تضل إذن ولا تطغى.

العقل والدوائر الثلاث

وأضاف أفوغال، أن إيمان العقل المسلم بالغيب وتصديقه لأموره العظيمة، لا يتم في صراع مع عقله، لأن هذا العقل يميز بين ثلاث دوائر: دائرة العقل، ودائرة الوحي، ودائرة الخرافة. وليس كل ما هو خارج العقل بالضرورة وحياً، ولا بالمقابل خرافة، وإن كانا يتطابقان عند الملحد، بمسمى أن كل ما هو خارج العقل خرافة، حتى ما كان غيباً أو وحياً أو عقيدة.

ولفت إلى أنه يمكننا أن نستنتج مما تقدم، أن معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم هي القرآن الكريم، ومن ثَم فهي معجزة عقلية وعقلانية، إذ إن سائر معجزات الأنبياء السابقين انتهت بانتهاء زمانها، وكانت من جنس ما تفوق فيه أهل زمان كل نبي، لتلائم تلك المعجزة طبيعة تلقي المخاطب لتلك الكتب وتلقي معاصري ذاك النبي. والرسول محمد عليه الصلاة والسلام باعتبار معجزته خاتمةً، كان لا بد أن تكون معجزة عقلانية تتعدى الأزمنة وتعبُر الحقب وتخاطب الإنسان مهما تطورت معارفه ومهما تطورت إمكاناته ومهما تطورت قدراته العقلية.

أخبار ذات صلة

 

شاركها.
© 2025 خليجي 247. جميع الحقوق محفوظة.
Exit mobile version