هذا التحول السريع إلى معارف وقيم وسلوكيات جديدة في بيئة الاتصال؛ خلق مقاربة شديدة بين نظريتي الحتمية التكنولوجية والاستخدامات والإشباعات، وهي جديرة بالتأمل وتعميق الدراسات حولهما، ولكن ما يهمنا هو المحتوى المنشور في شبكات التواصل الاجتماعي، حيث تجاوز فكرة التفاعلية والتشاركية إلى فكرة «الاستقطاب» بشقيه النخبوي والجماهيري (الشعبي)؛ بفعل تباين وانقسامات وجهات النظر بين مؤيد ومعارض حول ما يثار في المحتوى الشبكي من قضايا وأحداث، ونتيجة لذلك برزت متغيرات مثل الأيديولوجيا والانتماء والمصلحة والتحيّز والصراع، وغيرها لتعزيز عملية الاستقطاب لفكرة أو قيمة أو سلوك معين، وبالتالي تهيئة الرأي العام لمدى قبولها، أو مسايرتها لمرحلة زمنية معينة.
الواقع يقول إن تداول المحتوى الشبكي في وسائل التواصل الاجتماعي ليس غايته الوحيدة هو التفاعل معه، ولكن أيضاً محاولة استقطاب النخب والجماهير ليكونوا جزءاً منه؛ فالتفاعل قد يكون لحظياً (ردة فعل)، ومرتبط غالباً بالاتجاه (سلبي، إيجابي، محايد)، والتعميم (الانطباعات، التقديرات، التعليقات)، والتسويق (أفكار، منتجات، خدمات)، وطلب الشهرة (زيادة متابعين، الخروج عن النسق المألوف)، بينما الاستقطاب هو عملية أخرى مختلفة تماماً؛ فهو قائم على الانقسام والسيطرة والنفوذ والتضليل والتشكيك والتأزيم للرأي العام، وهو ما جعل «الاستقطاب المجتمعي» ضمن قائمة ثلاثة أقوى مخاطر تهدد العالم في الوقت القريب، وفي المرتبة التاسعة ضمن لائحة المخاطر طويلة الأمد، بحسب تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس 2024، وأهم وأخطر أدوات ذلك الاستقطاب هي شبكات التواصل الاجتماعي، وخوارزميات الذكاء الاصطناعي.
اليوم الإعلام المضاد يتبنى فكرة الاستقطاب وليس التفاعلية أو التشاركية في محتواه، ويمارس أدواراً مشبوهة، ومضللة للحقائق، ومزيّفة للواقع؛ مما يتطلب وعياً من النخب قبل الجماهير في التصدي لعمليات الاستقطاب من المواقف والقضايا المجتمعية والدولية، وتحديداً في هذا التوقيت الذي تزايدت فيه حدة الصراع، وإيديولوجيا الجماعات والأحزاب، وأصبحت الكثير من القضايا على محك مكشوف من استقطاب مضاد، ورخيص، وتافه أحياناً.
استقاء المعلومات من مصادرها الرسمية، وعدم الخوض في قضايا ملتبسة فكرياً وسياسياً، والعقلانية في رؤية الموقف وتقديراته بعيداً عن العواطف؛ كلها مدخلات رئيسة لتشكيل الوعي في هذه المرحلة الحساسة من عمليات الاستقطاب المجتمعي، ويضاف إليها التحكم في سلوك ودوافع الاستخدام والإشباع حتى ولو فرضت بيئة الاتصال شروطها علينا كمتلقين أو مشاركين، وكما قال الفيلسوف والعالم الألماني ماكس شيلر، حينما تحدث عن مكانة الإنسان في الكون «يمكن للأشخاص التزام الصمت والاحتفاظ بأفكارهم لأنفسهم، وسيكون ذلك أمراً مختلفاً تماماً عن قول أي شيء».