يرى المفكر الجزائري العفيفي فيصل، أن المقصود بالأديان، بناء الإنسان بناء متكاملاً ومتناسقاً، وسويّ التفكير في نفسه وفي العالم الذي يعيش فيه، وعلى إثر كل ما سبق تتحدد سلوكياته وأفعاله وقراراته، التي هي جزء من الحياة الإنسانية. ولفت إلى أنّ أغلبيّة الناس عبر التاريخ، وبِغض النظر عن اسم أديانهم ونوع معتقداتهم، يغلب على إيمانهم ظاهرة التسليم المقلّد والبسيط، إلاّ أنّه في عصرنا الحالي ونظراً لما تثيره الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي من جدل فكري جريء وبلا حدود من جهة، وما يشهده العالم من تطّور علمي مادي وتقني رهيب وغير مسبوق من جهة أخرى، لم يعد الإنسان المؤمن ذلك العامي المرتاح فكريّاً ونفسيّاً لما ورثه من معتقدات وأساطير، بل صار يقارنها ويحاكمها بمصادر أخرى من خارج الصندوق، سواء بإرادته باعتباره باحثاً ومتسائلاً، أو من دونها نتيجة سرعة وكثافة تدفق المعلومات عبر النت في محيطه المنظور والمسموع، ولذا يحتار البعض، بين تمحيصه للموروث الديني، وتشبثه بإيمان العجائز، أو انتقاله إلى الراديكالية باعتبارها حصن دوغمائية منيعاً ضد كل ما يزعزع أركان الإيمان وما تنتجه من طمأنينة نفسيّة لصاحبها.

وأوضح أنه لا بأس بأن نحاول فهم ترك المؤمن لذلك الإيمان البسيط المليء بالطمأنينة الروحيّة، والقفز إلى إيمان متشبّع بالقلق والشكوك والنقد للأديان بتاريخها وطقوسها وقصصها، أو التحوّل إلى الالتزام الحازم بالدين ونصوصه الحرفيّة على المنهج الرجعي.

وذهب إلى أنّ المجتمعات الغربية تجاوزت إشكالية الدين/‏العلم، منذ انفجار الثورة الصناعية في القرن السابع عشر نتيجة أعمال علميّة، وفلسفيّة وسياسيّة وأدبيّة بعضها سابقة على الثورة وأخرى لاحقة، مثل كتاب «كوبرنيكوس» الذي قضى على فكرة وجود الأرض كمحور تدور من حولها الأجرام، وبالتالي سقوط أسطورة (البشر مركز الكون)، وكتاب «المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية» الذي أطلق رصاصة الرحمة على (مركزية الأرض) الذي ألفه «نيوتن» رغم غضب الكنيسة، وأعمال «فرويد» التي كشفت زيف الكثير من الأفكار والمعتقدات، وكتاب «رأس المال» لكارل ماركس.. إلاّ أنّ مجتمعات العالم المتخلّف لا تزال تعيش جدليّة الدين والعلم.

ويرى أن خطاب رجال الدين في عالمنا الإسلامي، يقوم على نظرية الهروب إلى الأمام، زاعمين عدم وجود نزاع بين الدين والعلم، وأنّ ما يتّم تصويره كخلاف بينهما ما هو في الحقيقة سوى خلاف لفظي، أو سوء فهم وتفسير، أو شبهات ومؤامرات يثيرها أعداء الدين الأشرار، وفي أحسن الأحوال يقولون لا علاقة بينهما أصلاً، فكل طرف له مجاله ولا يتدخل في مجال الطرف الآخر، مشيراً إلى أنّ الأديان تحتوي على معتقدات وتصّورات وقصص حول الكون والإنسان وأصلهما ونشأتهما وطبيعتهما ومصيرهما في الحياة وعقب الموت، إلاّ أنّ جوهر الإشكال ليس في الاختلاف الكبير بين هذه المعتقدات المقدسّة والمقررات والاكتشافات العلميّة، بل في الخلاف المنهجي بينهما من حيث الوصول إلى المعارف واليقينيات، فإن كان المنهج العلمي يقوم على الملاحظة والتجريب والاستدلال وعلى أساسها يحدد مدى صحة النتائج التي يصل إليها، فإن منهج الأديان للوصول إلى المعارف يقوم على الرجوع إلى نصوص تعتبر إلهيّة عند المؤمنين بها، وعلى كتابات من اجتهدوا في فهم وشرح وتفسير هذه النصوص، وهذا المنهج الأخير يستند أساساً على الثقة المطلقة بالنص باعتبار مصدره السماويّ، وعلى الثقة العمياء بالقدماء الذين اجتهدوا في تفسيره وتأويله واستنباط الأحكام منه، إذ يعتبرون علماء وحكماء ولا يمكن تجاوز كتبهم ومدوناتهم في فهم الدين. ولهذا تتجه باستمرار أنظار المؤمنين، خصوصاً ذوي الفكر الرجعي ومن خلفهم العوام إلى الماضي، بتسليم يصل إلى حد القناعة أنّ كل المعارف والحقائق تم كشفها في نقطة محددة في التاريخ (زمن نزول الوحي وما بعده بقليل)، ومن هنا نفهم تصادمهم ونزاعهم الدائم مع النظريات والاكتشافات العلميّة الحديثة إما برفضها وتكذيبها، أو الزعم أنها ليست بجديدة، بل موجودة من قبل في كتبهم الدينيّة، وبالتالي وجود استمرارية لا متناهية في تأويل النصوص وتأويل التأويل تحت شعار الإعجاز العلمي أو استنباط المعارف الكامنة.

ويؤكد أنّ الغرب لم يخرج من عالم الظلمات إلى عالم العلم والأنوار، إلاّ بنزاع شديد بين الكنيسة والمؤسسات العلميّة، فما إن تظهر نظرية علميّة حديثة حول موضوع ما، إلاّ وتقابلها مفاهيم دينيّة تقليديّة حول الموضوع نفسه (من نقاط التشابه بين الدين والعالم اشتراكهما في مهمة تفسير العالم وأحداثه وتحديد الأسباب)، وعقب صراع ربما يصل لسنوات، تنتصر النظرة العلميّة ويضطر رجال الدين إلى التراجع والانسحاب بتأويل نصوصهم، وخلال ثلاثة قرون إثر سلسلة طويلة من التراجعات والحسم في قضايا مهمّة لصالح العلم، أدركت الكنيسة خطأ الوقوف في وجه العلم، والمؤسف أنّ عالمنا الإسلامي، وبالتحديد خلال الزمن العباسي، كان له السبق وعاش الجدل الديني العلمي وتمكّن من تعديل الكفة بين أهل العقل وعلى رأسهم المعتزلة والفلاسفة وأهل النقل وعلى رأسهم الحنابلة والأشاعرة، ولهذا قال فلاسفة الإسلام بقدم العالم وقالت المعتزلة بشيئية المعدوم، وحتى ابن تيمية قال بالقدم النوعي للعالم وكلهم اضطروا إلى استخدام مصطلحات وتعقيدات كلاميّة تجنّباً لغضب رجال الدين، فالشاهد أنّ التجاذب بين المؤمن المتشبّع بالثقافة العلميّة والفلسفيّة والمؤمن المتشبّع بالثقافة الدينيّة النصيّة الحرفيّة موجود في تاريخنا، وتجدّد مرة أخرى مع الشيخ الأزهري محمد عبده ومدرسته التنويريّة، إلا أنّ العقل في هذه المدرسة ظل أسطورياً رغم تحرره نسبياً.

الأديانتحتويعلى معتقدات وقصص حول الكون والإنسان وأصلهما

وتساءل عن موقف المثقف الذي يحترم العلم ولكنه نشأ شأن أفراد المجتمع وسط تربية وتعاليم وأفكار دينيّة بعضها تخالف صريح العلوم الحديثة؟ويجيب، بأنّه سيعاني من التوتر الفكري والاضطراب النفسي، ومدى التأثير على حالته النفسيّة، فهناك من يضغط على نفسه لإخفاء هذه المشكلة فتغوص في أعماق المشاعر مع المكبوتات، ومن حيث لا يدري أي بصورة متستّرة فهي التي تؤثر في تفكيره وفي سلوكه، وهناك طرف آخر نتيجة ما يقع له من قلق بسبب هذه الإشكالية، فإنه يهرول بسرعة إلى التمسّك بالمذهب المتشدّد في الدين، فتصير كل سلوكياته وأفكاره عبارة عن تعصّب، وذلك بالغلوّ في الشكليّات وممارسة الطقوس، وإشهار العنف والعداء لكل من ينتقد مذهبه أو التراث أو القدماء ولكل من يحمل أفكاراً تقدميّة، بل وحتى علميّة، وهناك من يصاب بانسلاخ هوياتي رهيب تحت شعار الانفتاح على العلم والعلمانية، والراجح أن هؤلاء ضد الدين كجوهر إلاّ أنّهم لا يقدرون على الإفصاح فيستغلون تلك الشكوك والانتقادات الموجّهة للموروث الديني، في حين تبقى الطبقة الكبرى،الذين لا فرق عندهم بين إيمان هؤلاء المثقفين وإيمان العامة وإيمان العجائز، والراجح أنّ هذا هو سبب الشلل الفكري الذي نعاني منه، لأن تفاقم ظاهرة اللامبالاة والانفصام تؤدي إلى تعطيل آلية التفكير وإلى توسيع الفجوة بين العلم الحقيقي والعلم والمزيف، ومنه لن يكون عندنا المثقف المنتج بفعاليّة، بل مثقف المقاهي.

الغلوّ في الشكليّات وممارسة الطقوس

أخبار ذات صلة

 

شاركها.
© 2025 خليجي 247. جميع الحقوق محفوظة.