تستحق التشكيلية دنيا صالح الصالح الاحترام، والتوقّف الطويل أمام لوحاتها؛ لتأمل الأفكار التي تكاد تتحدث وتعبّر عمَّا يختلج داخل التشكيلية، ولا يُستكثر عليها أن تضخ الأفكار الحُرّة والمتطلّعة لآفاق أرحب من إنسانية الكون والبشر، وبما أنّها ابنة بيئة مثقفة ومُلهِمة فمن الطبيعي أن نجد في لوحتها القصيدة، والأغنية، والزخرفة، والحياكة، فوالدها الكاتب الشاعر صالح الصالح، أسس داخلها علاقة وطيدة بكل مظان الجمال، وهذا ما خرجتُ به من حواري معها، فإلى نصه..
• هل للأب الشاعر دور في توجهك نحو الفنون؟
•• لوالدي دور مهم وأساسي في مسيرتي باعتباري إنسانة بالدرجة الأولى، وفنانة تشكيلية، ومتذوقة للفنون الأخرى والأدب، إذ نشأتُ وتربيتُ، في بيت يُحترم فيه الإبداع ويُحتضن إلى أن يحقق مبتغاه، وهذا ما حدث معي منذ طفولتي، فعمل والدي على اكتشاف موهبتي وصقلها، بل وتوجيهها، وتوفير كل ما يلزم للارتقاء بها منذ الصغر، بما في ذلك المصادر والمراجع، وزيارة معارض تشكيلية، والاطلاع على تجارب تشكيليين ومنهم الأديب والتشكيلي عبدالعزيز مشري، والتشكيلي الكبير «عبدالجبار اليحيى»؛ الذي كان والدي ينقل جديد أعمالي إليه بين حين وآخر ليستمع لرأيه النقدي، ما شجعني على الإصغاء لرأي النقاد، والاستفادة من خبراتهم ومنهم الناقد كمال حمدي، وأحمد خوجلي، والدكتور حسن ظاظا، والروائي عبدالرحمن منيف -رحمة الله عليهم جميعاً- ودور والدي لم يقتصر على ذلك فحسب، بل ظهر واضحاً عندما تزامن الرسم مع الشعر والنثر بدايات تجربتي، وخشي أن يؤدي تعدد الاهتمامات إلى تشتيت الموهبة، ما دفعه لتوجيهي لاختيار الأسلوب الأفضل للتعبير، الذي أجد نفسي فيه، وهنا اخترت التعبير بالرسم.
• بماذا تصفين الفنّ التشكيلي، فطرة موهبة، أم مكتسبة؟
•• الفن التشكيلي مصطلح واسع يضم عوالم متعددة منها الرسم والنحت، والتصوير والهندسة وغيرها، والولوج لأحد هذه العوالم يأتي بالفطرة «الموهبة» ومن ثم صقلها واكتساب المزيد من الخبرات بالدراسة لتصبح المدخلات المكتسبة طوراً جديداً لنضوج الموهبة «الفطرية»، وللعلم أن هناك مصطلح «فنّ فطري، وفنان فطري» يمثل الفن الأصيل ولا يخضع للقوانين المتعارف عليها، ووعي الفنان وموروثه الثقافي والنسبة الذهنية النابعة من بوصلة فطرته هو ما يحكم إبداعه، وهذا نجده جليّاً عند الإنسان قديماً في مناطق المملكة، إذ إن الفنانة أو الفنان يجيد ويتقن الزخرفة الشعبية، بل ويبدع فيها متى استفاد من تجارب الآخرين وخبراتهم وعززها بالدراسة، كما في «القط العسيري» وحياكة «السدو»، أو«الروشن» في المنطقة الغربية و«الأبواب» في نجد.
وفي ظل الانفتاح على الآخر ومع تطور الاتصالات أصبح الفن التشكيلي- بتاريخه ومدارسه- متاحاً للجميع، ما أسهم في مساعدة الفنان على تطوير نفسه وقدراته، بل وابتكار مدارس حديثة.
• ما نواة الوعي الأولى؟
•• أعتقد أن الصرخة الأولى للمولود بعد امتلاء رئتيه بالهواء، هي البوابة الحقيقية للحياة وليس الولادة، وارتباط الألم بالولوج إلى الإنسانية؛ التي تعني «الحياة والموت» واكتشاف الذات مبكراً والمحيط الخارجي بكل ما فيها من مؤثرات، ما يشكل نواة الوعي الأولى.
• لمن تدينين بالفضل في تشكيل ذائقتك؟
•• حتى لا أظلم أحداً، كل من عاصرته في حياتي منذ طفولتي وإلى الآن لهم دور في تشكيل ذائقتي الفنية؛ أسرتي، صديقاتي، زميلات العمل، بمن فيهم المارة المجهولون في طريقي، والطير والشجر، وحتى العناصر الأربعة، أما الدور الأكبر بعد والدي فقد كان لجدتي «قمراء» رحمها الله، التي كانت تجيد حياكة «السدو» وتبدع في ألوانها وزخرفتها بأشكال مستوحاة، من موروثنا الشعبي الأصيل، والتشكيلي الراحل عبدالجبار اليحيى بإبداعه في أعماله التي تناولت الإنسان في كل حالاته، والفنان التشكيلي «فان جوخ»، الذي أحب الطبيعة وأحبته، فأبدع في تفاصيلها، كل هؤلاء وغيرهم كُثر، زرعوا في داخلي حب الفن وأسهموا في تشكيل ما ترسمه يداي.
• هل توافقين على مقولة «التشكيلي الناجح مجموعة أفكار وقصائد وألوان وانطباعات»؟
•• التشكيلي قبل كل شيء هو إنسان يشكل جزءاً من كل، يتأثر ويؤثر، ونتاجه الإبداعي يعكس ذاته ومحيطه، وما يجعله ناجحاً هو إحساسه العالي بالمسؤولية تجاه الفن، ومدى انعكاسه على المجتمع، ومضمون الرسالة التي يحملها. أما ما تطرقت إليه من صفات في سؤالك عن التشكيلي الناجح، فهو ينطبق على أي مبدع في أي مجال، ونجاح التشكيلي مرهون بما يقدمه من إبداع مترابط، متقن، يتوازى فيه الشكل مع المضمون، مع الالتزام بقوانين الرسم العلمية كقواعد المنظور مثلاً، ولا أنسى احترام المتلقي أيّاً كان هذا المتلقي أو ثقافته أو انتماؤه، وحقه في فهم ما يقدم وما يعرض، وهنا أخالف بعض من يعترض على شرح اللوحة، أو محاولة تبسيط المعنى للمتلقي، فلا يجب أن تتسع الهوة بين العمل والمشاهد، فالتثقيف الفني دور مهم للفنان ودليل نجاحه، يجب عدم تجاهله، كما أنه يضاف لمهماته من أجل تحسين ذائقة العوام وتطوير ثقافتهم الفنية.
• أي رسمة بشّرت بقدومك إلى عالم التشكيل؟
•• أول تجاربي الحقيقية كانت جداريات بالفحم، ولوحات على «الكانفس» بالألوان الزيتية وأتذكر أن «اللوحة الأولى» زيت على كانفس جسدت فيها حائطاً محطماً من الجهة اليمنى، وهناك عين تدمع ليتحول الدمع لبركة دماء، في تجسيد لفلسطين التي في قلوبنا ولم تغادر وكان عمري آنذاك 11عاماً، وأول لوحة نشرت لي كانت في صحيفة الجزيرة الصفحة الثقافية، وكنت وقتها في الصف الثالث متوسط، وعموماً أعمالي في هذا العمر تعبر عن الإنسان وإنسانيته وصراع الخير والشر، والحرب والسلام.
• ما دور أسرتك، ومدرستك في التحفيز وتوفير ما يلزمك في ذلك الوقت؟
•• دور المدرسة كان محدوداً جداً مقارنة بدور الأسرة التي سعت دائماً لتحفيزي، وتوفير فرص متعددة للنهوض بفني وتحقيق أهدافه، وهنا أخص بالذكر عمي العزيز مرضي الصالح -أطال الله عمره- الذي خصص من راتبه آنذاك ميزانية قدرها 500 ريال لدعمي بالأدوات والخامات، هذا وأنا في مرحلة المتوسطة، أما في باقي المراحل والمحطات فهناك دعم مستمر من جميع أفراد الأسرة وحتى أصغر فرد فيها، والآن وبعد أن تفرغت للفنّ خصوصاً إثر التقاعد، أصبح كل فرد في عائلتي داعماً لي، بل ومشجعاً بالتزام الحضور لنشاطاتي التشكيلية، وهنا أخص والدي، الذي لم يمنعه بعد المسافات عن حضور كل مشاركاتي دولية أو عربية.
• هل تدفع الثقافة التشكيلي إلى التعلق بمدرسة ثم الانتماء إليها؟
•• بإمكان الثقافة أن تقلب المفاهيم وتؤثر على التشكيلي وتقوده إلى حيث تشاء، إن كان غير مثقف، ولا يملك موقفاً واضحاً تجاه المدارس التشكيلية وما يلائمه وفق إمكاناته، فالانفتاح على الثقافة والمعارض التشكيلية المحلية والدولية، والتنافس على الاهتمام بالفنون عند دور العرض، إضافةً إلى الجامعات والمعاهد، التي تدرّس الفنون، وسوق الفن «العرض والطلب»، كلها تسهم في توجيه الفنان إلى الانتماء لمدرسة معينة، هناك ما يشبه الموضة التي تكتسح السوق لزمن، ومن ثم تليها أخرى، غير أن الفنان الأصيل لا ينساق خلف هذا التوجه أو ذاك إلا بقناعة تامة ورضا كامل.
• متى كان أوّل معرض لك؟ وهل كان شخصيّاً أم جماعياً؟ وأين كان؟
•• أول مشاركة لي كانت عام 1994م، في معرض جماعي، بمقر السفارة الهولندية بالرياض، وعقب ذلك تتالت المعارض الجماعية في مناطق المملكة في جدة وأبها والدمام، أما الشخصية فكانت ثلاثة معارض؛ واحد في لبنان واثنان في القاهرة، آخرهما «الحراقة» 2019، والآن أعد لمعرض قادم لم يحدد زمانه ولا مكانه.
• ما العمل الذي رضيت عنه تمام الرضا؟
•• ليس هناك عمل تشكيلي رضيتُ عنه تمام الرضا، ولن يوجد، وهذا ما يجعل اللوحة الفنية جزءاً لا يتجزأ من الفنان، والتوقيع لا يُنهي هذه العلاقة، ولا يعلن اكتمال اللوحة، أو رضا الفنان التام عنها، بل إن هناك أعمالاً أتلفتها بعد إنجازها، آخرها بالمشرط، ومع هذا، هناك أعمال قريبة مني ترتبط بذكريات خاصة، أو رسمتها في أماكن أحببتها، مع إيقاع موسيقي ملهم، أو في حضور أشخاص ملهمين، كما أن هناك أعمالاً قمت بإهدائها، وبقيت في القلب مع أن بعضها متواضع، وهذا يذكرني بلوحة صغيرة الحجم «حفر على خشب» لبيوت من نجد أهديتها للروائي عبدالرحمن منيف، ونقلها آنذاك له الكاتب محمد القشعمي، وأخرى أهديتها للشاعر الكبير محمد العلي، وموجودة في لبنان، وأخرى في سورية قدمتها للروائي والأديب حسن سامي يوسف، وأعمال أخرى عزيزة عليّ في عهدة من يقدر الفنّ ويعتني به.
• كيف ترين مستقبل الفنون البصرية في المملكة؟
•• الفن في المملكة ليس وليد اليوم. فهو في صلب ثقافتنا الشعبية الموروثة، يكمن الجمال في كل شيء بدءاً من الزخارف المتجليّة على أبواب ونوافذ البيوت، وفي الملابس والحلي، إلى الرقص والغناء والموسيقى، والشعر والقصص، وهذا يتضح جلياً فيما توليه وزارة الثقافة، ومسك الفنون، والجمعيات المعنية بالفنون التشكيلية «جسفت» و«الثقافة والفنون» والمنتديات الجديدة، والمعاهد، والجامعات، وقاعات العرض المنتشرة في مناطق المملكة، بما فيها قاعات مركز الموسى في العليا بالرياض، وكل هذه وأكثر في الطريق الصحيح لتحقيق نهضة نوعية في مجال الفنّ التشكيلي عموماً.
وبهذا فالفنون البصرية ماضية نحو الأمام وفق ثقافتنا ورؤيتنا، وغير الناضجة منها، وإن بدت للجميع أنها طبيعية فهي لا تعدو طفرة بإذن الله تجد طريقها إلى النضوج، أو تختفي.
• ما الدافع لتأسيس إتيليه خاص بك في القاهرة؟
•• الإتيليه الخاص بي في القاهرة ما هو إلا مرسم صغير الحجم، واسع الأفق بحجم السماء والأرض، كالنسمة، بل كغمضة عين، دام عاماً، ورسمت فيه الأجمل والأقرب لقلبي، دعمت فيه الموهوبين، ومنهم الأطفال، دشنته بافتتاح عذب قامت به طفلة حملت مقصاً أكبر من يديها لتعلن افتتاحه، وتلى افتتاحه معرض شخصي إنساني عن مأساة المهاجرين غير الشرعيين بعنوان «الحراقة»، وعموماً تجربة إتيليه القاهرة تضيف الكثير لأي فنان وتثري فنه، فالوسط التشكيلي والثقافي في مصر مزدهر ومتنوع ومنفتح على كل العرب، وحالياً بصدد دراسة إقامة إتيليه جديد، بمزايا أفضل في القاهرة، وربما يتبعه إتيليه آخر في الرياض.
• ماذا عن المردود المالي للوحات؟
•• اللوحة الفنية هي أصول يمكن للمقتني أن يبيعها أو يحتفظ بها، ويمكن مع الوقت يرتفع سعرها كأي أصول، هذه المعلومة يجهلها البعض؛ لهذا يعترضون على أسعار الأعمال الأصلية بذريعة غلاء الأسعار، ويتجهون لاقتناء المقلد، أو المستنسخ من الصين أو أيّ كان. أما بالنسبة للمردود المالي فهو بحسب العرض والطلب واهتمام المقتني بالعمل وإعجابه به، وعن تجربتي الخاصة، هناك مقتنون يهتمون بأعمالي يقتنونها بين حين وآخر من سفراء، ورجال وسيدات أعمال متذوقين للفن، وهذا يشعرني بالسعادة والرضا، مع أن المردود النفسي والمتعة لا يضاهيها أي مردود مالي، وبالذات عندما أمسك فرشاتي وأقف في بلاط مرسمي، فكأني ملكت الدنيا.
• هل تطفّل على الفنّ التشكيلي أناس من غير أهله؟
•• الفن التشكيلي عالم واسع يضم أساليب ومدارس متعددة، تختلف عن بعضها في الشكل والجوهر، يحكمها الزمن، الجغرافيا، التحولات الاجتماعية، القيم الإنسانية، والمعتقدات، ومن ضمن هذه الأساليب الفن المفاهيمي «المتسيد الآن»، الذي عندما تم استحداثه افتتح أبوابه بعمل فني للفنان «دوشامب» تحت مسمى «المرحاض أو النافورة» في عام 1917م، وبعدها انفتحت الأبواب أمام أي شخص راغب في الشهرة دون عناء، وحمل راية الفن والحصول على لقب فنان، هذا النوع من الفن كما هو معروف لا يحتاج إلى مراقب أو شهادة تثبت إجادة مسك الفرشاة، أو تزكية لمحتوى يعبّر عن فكرتك، ما عليك إلا أن تجمع ما في طريقك وتكوّمه لتنشر وتعرض إبداعك، أو تسكب دلو ألوانك على سطح ماء، لتُعلّق لوحتك وتوقع اسمك أو بدونه، ويمكن الاستعانة بعدد من العمال الحرفيين؛ للعمل عنك وتحمّل المشقة، ومن أشهر الأعمال التي بيعت أخيراً في مزاد عام 2019م، «الموزة المعلقة» في دار «سوذبيز» في نيويورك، وهذا هو الفن وأهله، إشارة لفناني هذه المدرسة التي تطفّلت على الفن وأفسدت الذائقة وهوت بها إلى القاع.
أخبار ذات صلة