لن تثقلني القرون العشرة التي جاوزَ عدادها في حساب الأيّام الفوالت البضع أو يزيد، منذ رحيلك يا أبا الوليد، عن القصد إليك اليوم في مضجعك هناك بإشبيلية رحلة تجاذبني فيها الهواجسُ، وتأخذني في كلِّ اتّجاه؛ تجتمعُ وتفترق، تستوحِشُ وتستألِف، تؤمِن وتُنكر، هذا وذاك، شتيتٌ من أضداد، ولميم من مشاعر بعثرَتها سيرتك يا ابن زيدون في خاطري منذ ميلادك في قرطبة عام 394هـ الموافق 1003م، وحتى رحيلك في مطلع شهر رجب من عام 463هـ الذي وافقه يوم الخامس من أبريل عام 1071هـ.. لست آخذًا نفسي بحساب عمرك، وكم قضيت، فحسبي مذهبك منها وقد رثيتها قبل رحيلك بقولك السيّار:

ما لي وَلِلدُنيا غُرِرتُ مِنَ المُنى

فيها بِبارِقَةِ السَرابِ الخادِعِ

ما إِن أَزالُ أَرومُ شُهدَةَ عاسِلٍ

أُحمى مُجاجَتَها بِإِبرَةِ لاسِعِ

مَن مُبلِغٌ عَنّي البِلادَ إِذا نَبَت

أَن لَستُ لِلنَّفسِ الأَلوفِ بِباخِعِ

أَمّا الهَوانُ فَصُنتُ عَنهُ صَفحَةً

أَغشى بِها حَدَّ الزَمانِ الشارِعِ

لكني مرتحل إليك اليوم وقلبي مثقل باللوم والعتاب، إذ لم يحفظ الزمان لك من عمل السياسة، وتدابير الحكم والسلطان والوزارة، إلا لقبًا عابرًا، وصنيعًا لم يسلم من انتياش ولجاج وما بقيت لك في ذاكرة الأيام إلا سيرة حب خَلُد في الخواطر، وصار مصدر إلهام، ومبعث شجى وتَمثُّلٍ، وأروع ما فيه أنّه كان حبًّا جمع بين أديب وأديبة، فامتلأت كراسة الأدب برائق المعنى، وعذب الشعر، وناضح المشاعر الدوافق، مسيلًا من دنٍّ العشق المتلاف.

وهنا مكمن عتبي، المتقولب حنقًا وغيظًا منك، وموجدةً، على تلك الحماقة والفهاهة التي أتيت بها، فآذيت وأدميت وأذريتَ بكلِّ ما صنعت من رقائق، ووشَّيتْ من نسيج!

لا تُقطِّب حاجبيك من تحت قبرك دهشة، فلستُ على عجلة من أمرى في عتابك، لكني في حاجة إلى أن أرتحل معك إلى قرطبة، حيث ولادة بنت المستكفي، فكل شيء قبلها كان إرهاصًا، وكل أمر بعدها صار ندمًا. فانظر إلى المبتدأ منك كيف كان خضلًا رطيبًا بلِيْلًا بالأمنيات، وأنت تنشد لها:

إِلَيكِ مِنَ الأَنامِ غَدا ارتِياحي

وَأَنتِ عَلى الزَمانِ مَدى اقتِراحي

وَما اعتَرَضَت هُمومُ النَّفسِ إِلّا

وَمِن ذِكراكِ رَيحاني وَراحي

فَدَيتُكِ إِنَّ صَبري عَنكِ صَبري

لَدى عَطَشي عَلى الماءِ القَراحِ

وَلي أَمَلٌ لَوِ الواشونَ كَفّوا

لَأَطلَعَ غَرسُهُ ثَمَرَ النَجاحِ

وَأَعجَبُ كَيفَ يَغلِبُني عَدُوٌّ

رِضاكِ عَلَيهِ مِن أَمضى سِلاحِ

وَلَمّا أَن جَلَتكِ لِيَ اِختِلاسًا

أَكُفُّ الدَهرِ لِلحَينِ المُتاحِ

رَأَيتُ الشَمسَ تَطلُعُ مِن نِقابٍ

وَغُصنَ البانِ يَرفُلُ في وِشاحِ

أكان ذلك يا «ابن زيدون» استجابة لدعوتها التي نظمتها لك شعرًا، وضمنتها موعدًا حين يغفل الرقيب، ويرقّ الحبيب، فما وجدتُ دعوة لحبيب مثلها، فقد صدقت فيها حسًّا، وأورقت حواشها شغفًا، حين كتبت لك على جناح الشوق الخافق:

تَرقّبْ إذا جنَّ الظَّلامُ زيارتِي

فإنّي رأيتُ الليلَ أكتمَ للسرِّ

وبِي منكَ ما لو كانَ للبدرِ لَمْ يُنرِ

وباللّيلِ لمْ يُظلمْ وبالنّجمِ لم يُسْرِ

صدقتْ حين محضتك حبها، فما بال الغيرة قد أكلت فؤادك، وأحرقت ناضر حسّك، ومونق مشاعرك، أَرَابكَ منها أن كتبتْ معابثةً على صفحة ثوبها، مستعرضة في مجلسها الجامع الوريف:

أنا والله أصلحُ للمعالِي

وأمْشِي مشيتِي وأتيهُ تِيْها

وأُمكنُّ عاشقِي مِن صحنِ خدِّي

وأُعطِي قُبْلتِي مَنْ يَشتهِيها

أكانت لحظتها تغمز من طرف خفي للوزير «ابن عبدوس»، أم تراها كانت توقد نار العشق فيك بضرام الغيرة الموّار؟!

هل كان عليك أن تهتك السرّ، وتفشي به بهذه «الفجاجة» التي لم تُعهد عنك؟!

هل بلغ منك قول الوشاة و«النّاقلين» مبلغ التصديق بخيانتها فيحملك الحمق حتى تصيّرها من غضبك «أكلة شهية»، وتنعت خصمك بالفأر هيا انظر ماذا كتبت يا رجل في حقّ «ولادة» الحبيبة:

أَكرِم بِوَلّادَةٍ ذُخرًا لِمُدَّخِرٍ

لَو فَرَّقَت بَينَ بَيطارٍ وَعَطّارِ

قالوا «أَبوعامِرٍ» أَضحى يُلِمُّ بِها

قُلتُ الفَراشَةُ قَد تَدنو مِنَ النارِ

عَيَّرتُمونا بِأَن قَد صارَ يَخلُفُنا

فيمَن نُحِبُّ وَما في ذاكَ مِن عارِ

أَكلٌ شَهِيٌّ أَصَبنا مِن أَطايِبِهِ

بَعضًا وَبَعضًا صَفَحنا عَنهُ لِلفارِ

أكنت تتوقّع أن تغفر لك أن حولتها إلى «بغيٍّ»، وقد لطّخت ثوبًا من عفاف، وهتكت سترًا مُهر بموثق غليظ وعهد لا يفض؟!

أما كان خليقًا بك وكافيًا لك أن تفهم معنى مجلسها الجامع، ولفيف الأدباء والندماء فيه، وقد أفحمت من طالبها بإنجاز وعدها الماجن بـ«القبلة»، فما زادت أن طمأنتْ ثائرتك ببليغ ردها على المتطاول، مستدعية قول عروة بن أذينة:

بيضٌ نَواعِمُ ما هَمَمنَ بِريبَةٍ

كَظِباءِ مَكَّةَ صَيدُهُنَّ حَرامُ

يُحسَبنَ مِن لينِ الكَلامِ زَوانِيا

وَيَصُدُّهُنَّ عَن الخَنا الإِسلامُ

لكنك ذهبتَ بعيدًا، ومددت كفك بالضرب، وحبّرت رسالة فاحشة على لسانها في حقّ «ابن عبدوس»، فأدميت وجرحت، وأغبنت، وما فادك من بعدها قولك في مقام الاعتذار:

لَحا اللَهُ يَومًا لَستُ فيهِ بِمُلتَقِ

مُحَيّاكِ مِن أَجلِ النَوى وَالتَفَرُّقِ

وَكَيفَ يَطيبُ العَيشُ دونَ مَسَرَّةٍ

وَأَيُّ سُرورٍ لِلكَئيبِ المُؤَرَّقِ

وَما ضَرَبَت عُتبى لِذَنبٍ أَتَت بِهِ

وَلَكِنَّما وَلّادَةٌ تَشتَهي ضَربي

فَقامَت تَجُرُّ الذَيلَ عاثِرَةً بِهِ

وَتَمسَحُ طَلَّ الدَمعِ بِالعَنَمِ الرَطبِ

أهذا اعتذار يا رجل أم استهانة بما اقترفت، فما زدتَ على أن جعلتها «ماسوشية» تستعذب الأذية بالضرب!

فيا ليتك قد فهمت لحظتها، أو استدعيت في خاطرك قول عبّاس بن الأحنف في مقام المخاتلة:

أَتَأذَنونَ لِصَبٍّ في زِيارَتِكُم

فَعِندَكُم شَهَواتُ السَمعِ وَالبَصَر

لا يُضمِرُ السوءَ إِن طالَ الجُلوسُ بِهِ

عَفُّ الضَميرِ وَلَكِن فاسِقُ النَظَرِ

لو أدركت مراميه لعرفت أن كل الندماء في حضرتها «عفّ الضمير، ولكن فاسق النظر»، وحدك من جلس على القلب وتربّع، ومُحِّض من الحب ما لم يظفر به غيره. أرأيت أي جريرة أتيت، وأي لؤم اقترفت، وفي أي جحيم تركت «ولادة» من بعدك، وقد شقيت برحيلك إلى إشبيلية، وزاد شقاها وقد عاشت بعدك نحو عقدين من الزمن، فقد أذّن مؤذن رحيلها عام 1091م، في قرطبة البعيدة، ففي أي جحيم تراها عاشت هذين العقدين، وقد انطوت عنها صحائف الذكر، وانقطعت عن الناس، وآثرتِ العزلة والإيحاش..؟!

في قلبي عتب كبير عليك يا ابن زيدون.. عتب شخصي، لم يعزّه بعدُ بديع نظمك الباهر في حقّها، وحفاوة المحتفين بقولك:

أضحى التنائي بديلًا عن تدانينا

ونابَ عن طيبِ لقيانا تجافينا !

أخبار ذات صلة

 

شاركها.
© 2025 خليجي 247. جميع الحقوق محفوظة.