بين عرض يوناني مكثف شديد الاختزال والدلالات، وآخر عراقي بفنيات بدت في مواقع كثيرة زائدة عن الحاجة، عاش جمهور مهرجان الفجيرة للمونودراما ليلة جديدة من التواصل والنقاش والتوافق والاختلاف، فبينما لم يذهب العرض اليوناني الذي حمل عنوان «ميديا: الفراغ الأحمر»، إلى الفرجة بمعناها المبهر، وكان أقرب إلى الحوار الذهني والعقلي والتجريدي، الذي خاضته الكاتبة والمخرجة والممثلة اليونانية، صوفيا ديونيسوبولو، مع قراءة جديدة لواحدة من أشهر الشخصيات التراجيدية في التاريخ الإنساني، ألا وهي «ميديا»، بالغ العرض العراقي، الذي حمل عنوان «جوكر»، تأليف عبدالرزاق الربيعي، وإخراج حسين علي صالح، وأداء طه المشهداني، بأدواته الفنية، التي بدت في كثير من الأحيان حملاً ثقيلاً على الفرجة أكثر من كونها مادة دلالية بصرية ممتعة.

مونولوج الألم

بتكثيف مفرط محمّل بالدلالات الرمزية التي على المتلقي متابعتها، مضى عرض «ميديا: الفراغ الأحمر»، في مغامرة تحدّت الشكل البصري لمصلحة طبقات متراكمة من التعبيرات النفسية، التي راهنت على القول أكثر من الفعل، لتتبع تجلٍّ جديد من تجليات الأسطورة الأيقونية «ميديا» التي جردتها صاحبة العمل من تركتها التاريخية الثقيلة، لتخضعها لفضاء بصري وشعري منضبط وتجريدي تشابكت في السردية والمونولوج والصوت، لتحمل الممثلة ثقل سردية العمل وثقل «ميديا»، ووقفت الممثلة بملابس خاصة، تشبه الشبكة الأقرب إلى القيد، التي تسيطر على حيوية الجسد وقدرته على التحرر، وبدت هذه الملابس وكأن الممثلة قررت حمل ديكور العمل ودلالاته على جسدها الذي يؤسس لصراع داخلي عميق، ويؤسس أمامنا للحظتين متناقضتين، ألا وهما رمزية القداسة وسوداوية القيد، لنكون في نهاية المطاف أمام تمثيل لصراع داخلي مرير ومنهك، بين الغضب والانكسار، والأمومة والذنب.

أقرب تشبيه لهذا العرض أنه حُفر في الذاكرة والوجدان الفردي والجمعي، كنا أمام ممثلة واقفة في نقطة ضوء واحدة، يتحرك ظلها بين الجمهور بينما تحفر في طبقات من الذات، لتصير أدنى حركة أو انقباضة جسدية بالغة الدلالة، وانقلاباً على محدودية التعبيرات الجسدية في رحلة النبش وتعرية مفاهيم مثل الخطأ والمأساة.

الممتع في العرض أن الممثلة المميزة كانت تنطق بلغة «ميديا» الأصلية، وتؤسس لمشروع ذهني إبداعي بحثي أكثر من الذهاب إلى الفرجة، وهي واحدة من ميزات المونودراما التي تصلح أن تكون مختبراً للعقل والأفكار والقناعات، وهذا ما حاول الذهاب إليه عرض «ميديا: الفراغ الأحمر» في لعبة الكثافة والاختزال وتشريح المقولات والقناعات التاريخية ورفضها.

فضاء الخراب

على عكس «ميديا» بكل تكثيفه وتجريديته ذهب العرض العراقي «جوكر» في لعبته الفنية إلى الإفاضة في الأدوات البصرية، لنكون أمام فرجة وصفية لم تترك للمتلقي التفكير خارج ما تريد قوله، وكأن مخرج العمل كان يتعقب الحكاية أو النص، أكثر من تشريحه وتحليله والتعاطي مع عناصره الكثيرة، التي مضت بين الألم الشخصي الوجودي وآلام وطن وأزمات شعب لا تتوقف: إنها حكاية تنبش في الذات، والإنسان العالق في مواجهات مصيرية شخصية ووطنية.

وسط هذه الإفاضة الفنية قدم الممثل، طه المشهداني، كل شيء، انتقل من سنوات طفولته وآلامه الشخصية، وصولاً إلى الرحيل والهجرة والعودة، كان عليه حمل ثقل كبير في ارتحالات مستمرة من الحالات والمآزق والأماكن، وسط آلام ومكاشفات لا تتوقف للذات والآخر، حاول هذا العرض أن يرفع صوت آلام العراق وأوجاعه التي لا تتوقف، قد نختلف كثيراً في الخيارات الفنية لهذا العرض، وربما نعيب هذه الشرحية المفرطة في التوصيف، ولعلها ليست من شيم المونودراما، لكننا في النهاية أمام تجربة تحاول البحث في أزمات وطن موجوع يئن تحت أثقال من المآسي التي ترفض الرحيل عن بلد عربي كبير وعزيز.

«جوكر» مرثية مأساوية لفرد بصيغة الجمع، وصرخة في وجه ألم لعين يرفض الذهاب.

 

شاركها.
© 2025 خليجي 247. جميع الحقوق محفوظة.
Exit mobile version