في محاولة لاستقراء قصف إسرائيل لقنصلية إيران بحي المزة في سوريا، واغتيال رجال من النخبة في فيلق القدس التابع للحرس الثوري بينهم الجنرال محمد رضا زاهدي وآخرين، يقدم مدير مكتب شبكة الجزيرة في طهران قراءة مطولة لتوصيف الحدث ومحدداته وسياقاته وتداعياته.

من السذاجة تقديم ما قامت به إسرائيل، في الأول من أبريل/نيسان 2024، من ضرب مبنى قنصلية إيران في سوريا واغتيال نخبة عسكرية وازنة من قيادات فيلق القدس بأنه رسالة لحزب الله في لبنان وأمينه العام السيد حسن نصر الله، ومن السذاجة أيضا قراءة هكذا حدث في أصله على أنه رسالة لأي كان في الإقليم، فما جرى هو أهم وأوسع من ذلك بناء على 4 محددات و4 توصيفات.

المحددات:

  • قرار إسرائيلي بانتهاء حالة المراوحة، وهدم فكرة المحرمات بالمعنى الإقليمي، أي ضرب الأهداف المحرمة في المناطق المحرمة.
  • قرار إسرائيلي بالتخلي عن فكرة استعادة الردع الإقليمي بشكله الذي كان عليه قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، والذهاب لتفعيل عملي لفكرة صك مفهوم جديد للردع بإخراجه عنيفا عبر فوهة البندقية وليس عبر طاولات التفاوض.
  • قرار إسرائيلي باختبار مباشر ودموي لإيران وخياراتها وقدراتها، ومعرفة ما إذا لدى طهران قرار بالذهاب نحو ما يوصف بأنه هاوية إقليمية.
  • المحرم الوحيد المتبقي هو فقط استهداف عسكري علني وواضح من قبل الجيش الإسرائيلي لداخل الأراضي الإيرانية، وهذا ما لم يحدث حتى الآن.

أما التوصيفات مؤطرة بحثيا:

  • خطوة واسعة في طريق استرجاع مفهوم الردع الإقليمي عبر “ضربات الجملة الواحدة ” ومن الباب العريض، أي الباب الإيراني.
  • استثمار إسرائيلي جريء وخطر في لحظة فارقة، لحظة شرق أوسطية معقدة جدا، ولحظة أميركية جاءت بأسقف مرتفعة واستعداد للمغامرة، ولحظة إيرانية متشابكة الحسابات داخليا وإقليميا ودوليا، ولحظة إسرائيلية تنشد ردعا إقليميا مهما فقدته في السابع من أكتوبر/تشرين الأول؛ كل ذلك في وقت حساس واستثنائي ربما لن يتكرر أمام إسرائيل لاحقا.
  • اغتيال مباشر ومقصود لرجال هم بمثابة جزء من النواة الحيوية لنفوذ طهران الإقليمي، وجزء من العقل المركزي “لصفوة محور المقاومة” وفق التعريف الإيراني.
  • رسالة ثقيلة ودموية ومباشرة لإيران لا غيرها، وهي رسالة موقعة بدم أولئك الرجال الذي صنعوا أطواق النار ودوائر الرصاص والردع حول إسرائيل منذ بدايات ثمانينيات القرن الماضي.

وهنا يبرز تساؤلان وازنان ومهمان:

  • كيف جرى هذا الاختراق الأمني الوازن؟ وما موقع رجال النظام في سوريا استخباراتيا وعسكريا في هكذا خرق؟ وكيف ستعيد إيران تموضعها أمنيا وعسكريا داخل سوريا من خلال الحفاظ على العلاقة مع النظام ورأسه بالتزامن مع ضرورة فرض طوق أمني حديدي يحصن تموضعها هناك؟
  • ما دور روسيا في حال قررت إيران إدخال تعديلات جوهرية على تموضعها الأمني والعسكري في سوريا؟ وما حجم التقاطعات المشتركة، ومساحات الصدام المتوقعة؟

السياق الإسرائيلي

إسرائيليا، هو اغتيال متتابع لما أسميه أنا في المرحلة الراهنة “رجال البرنامج” (Program Men)؛ أي الذي يشغل الشق الحيوي من محور المقاومة خاصة في جبهات لبنان وسوريا وفلسطين. وقد يكون هذا المصطلح غريبا نوعا ما، لكنه ذو أهمية كبرى باعتقادي، ولفهم طبيعة هذا المصطلح وكيفية نحته سياسيا وجيوبوليتيكيا أوضح قليلا.

بعد اغتيال أميركا لقائد فيلق القدس السابق الجنرال قاسم سليماني، طرأ متغيران جوهريان بشأن محور المقاومة وهما:

أولا: استبعاد فكرة إعادة صناعة شخصية جديدة للمحور يكون بمثابة بطل جديد (Hero) يأخذ مكان (البطل) القديم تم اغتياله. وبدلا من ذلك سيكون الخليفة هو بمثابة “رجل البرنامج” (program man)، وسيكون محاطا برجال تشغيل هذا البرنامج، وهم النخبة العسكرية والأمنية التي أفرزتها تجربة الجنرال سليماني عمليا، فمن اغتالتهم إسرائيل منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول حتى الآن هم جزء من هؤلاء الرجال.

ثانيا: تحويل المحور ككل بدءا بدوافعه وآليات تحركه وصولا إلى أدواته في الخيارات والتنفيذ من شكل هرمي يقوده (البطل) إلى شكل أفقي أشبه بشبكة تمتد في مناطق مختلفة، بحيث يكون لكل منطقة بطلها الخاص بها، يحدد شكل ومضمون وآليات العمل ومنسوب التنسيق المطلوب مع بقية الساحات عبر رجال البرنامج في سياق الهدف الإستراتيجي، الأساس الذي يريده المحور ككل.

هذان المتغيران أوجدا شكلا جديدا للمحور وطريقة عمل مختلفة كليا عن السابق، وهذا يفسر شبكية الاغتيالات الإسرائيلية المتعددة والمتلاحقة بشكل أفقي وليس استهداف الرأس الهرمي كما كان سابقا.

السياق الإيراني وخيارات الرد

لفهم مركزية العقل المركزي الإيراني وكيف يتصرف في ظروف خطرة ومعقدة كهذه، لا بد من ذكر نقطتين أساسيتين تحكم هذا العقل وسياقاته بشكل عام:

  • مركزية فكرة البقاء، بمعنى بقاء النموذج، فالنظام في إيران ليس نظاما انتحاريا، ويفضل براغماتية البقاء بمنسوب محسوب وإستراتيجي من المبادىء الثورية الأساسية والاستمرار باتجاه ما يريد، ويفضل ذلك على المغامرة الثورية الحماسية لصناعة نموذج “البطل” الملتزم كليا بحرفية الشعار المعلن.
  • محدد الوصول إلى الهدف المطلوب بغض النظر عن حجم الدم المراق في الطريق، فتحقيق الهدف هو فقط ما يمكن أن يحدد حيوية وصوابية الفعل ورد الفعل في سياقات مختلفة وليس فكرة الانتقام أولا.

وعليه قد تكون خيارات إيران في الرد:

أولا: ضرب إسرائيل بشكل مباشر وباليد الإيرانية من خلال جبهة الجولان في سوريا، وهي الجبهة التي استثمرت إيران فيها بشكل واسع، والتي جهزها سابقا الجنرال سليماني كي تكون الجبهة التي ستمارس الجنون مقابل الجنون الإسرائيلي، لكن هناك محددان، بتقديري، يقفان عائقا أمام هكذا فعل في هذه المرحلة وهما:

  • الفيتو الروسي على تفعيل أو استخدام هذه الجبهة في سوريا، فبعد يومين فقط من استهداف القنصلية الإيرانية زادت موسكو من أعداد وعدد دوريات شرطتها العسكرية المتوضعة على الحدود السورية-الإسرائيلية.
  • وعدم رغبة النظام في سوريا بأن يفتح جبهة معلنة مع إسرائيل في هذه المرحلة على وقع مخرجات عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول.

في كلا الحالتين لا أعتقد أن طهران ستخاطر في شراكتها الإستراتيجية وعلاقاتها الوازنة مع موسكو، أو أن تتخذ قرارا بالتصادم العلني مع شق من النظام في سوريا.

ثانيا: تزويد حزب الله في لبنان بأنواع أسلحة نوعية وجديدة والسماح له باستخدامها ضد أهداف حيوية ومؤلمة في إسرائيل. ويبدو لي هذا واردا، لكن إن حدث فإنه يتطلب عملية إخراج محترفة ومهنية كي تكون ضربة كهذه مقنعة، وتوضع في ميزان إيران إستراتيجيا وفي ميزان الحزب ردعيا، وهذا من شأنه أن يصنع ما يمكن وصفه بالردع مرحليا، وهو ما يسمح باستعادة المبادرة والتحضير لما هو أكثر تأثيرا.

ثالثا: تحديد بنك للأهداف داخل وخارج المنطقة عبر استهداف مصالح إسرائيل ورجالها وبعثاتها الدبلوماسية، ولا أعتقد أن ذلك سيشكل العامود الفقري لأي تحرك إيراني فقد يكون جزءا منه وليس كله.

رابعا: رفع السقف عاليا والمغامرة بتوجيه ضربة بالصواريخ الباليستية بعيدة المدى لأهداف داخل الأراضي الإسرائيلية وهذا سيوازي ما قامت به إسرائيل جرأة ومغامرة وخطورة، يبدو لي مستبعدا، لكنه ليس مستحيلا ويبقى مطروحا.

خامسا: خليط من الخيارات الثلاثة الأولى عبر دمج الأمني بالعسكري بالسيبراني بالتهديد وحروب الظل، وتقديري أن هذا قد يكون الخيار الأنسب للحالة الإيرانية، خاصة في شكلها الراهن وتموضعها المرحلي.

استشراف

الشرق الأوسط برمته يعيش على وقع مخاض قاس لولادة معادلات ردع جديدة كليا، معادلات تُرسم حدودها بالدم في الميادين وليس عبر طاولات التفاوض حتى لو رأيناها هنا وهناك.

وكل المعادلات التي حكمت الشرق الأوسط وخط الصراع بين إسرائيل وإيران لم تعد موجودة وسقطت كليا، وإسرائيل الآن تظهر كمن يأخذ المبادرة المعلنة لصك مفاهيم جديدة للردع الجديد، وذلك عبر ضرب ما كان محرما سابقا ودون أي روادع، التقدير هنا أن إسرائيل ستستمر في ذلك مع محاولة الحفاظ على الرهان الأميركي لضمان أولي، ولو نظريا، لعدم قيام إيران وحلفائها بخطوات ردعية وازنة.

وهو ما يعني إسرائيليا:

  •  ولادة معادلة ردع إقليمية تلبي في جزء حيوي منها متطلبات الحالة الإسرائيلية أكثر من غيرها، وهذه قد تكون خسارة لطهران بمعنى الجيوبوليك؛ وهو أساس الصراع مع إسرائيل، ولا أعتقد أن إيران قادرة على احتواء ذلك أو تحمله لفترة طويلة.
  • استنزاف لهيبة إيران ونفوذها والمحور الذي تقوده في المنطقة كمشروع مضاد لمشاريع التطبيع والتسوية والسلام مع إسرائيل، وهذا محدد مهم في الحالة الإيرانية كونها رافعة المشروع وليست جزءا منه.
  • تفريغ الحالة الإيرانية عبر استهدافها بذاتها وعدم الاكتفاء باستهداف الحلفاء فقط، والتقدير أن ذلك سيستمر إسرائيليا ولو بوتيرة مختلفة في المرحلة المقبلة.

بالنسبة لإيران.. استشرافا

تبدو لي أن رهانات إيران مختلفة كليا، وفيها تشبيك كبير بين الحالة الداخلية والأوضاع الاقليمية والسياق الدولي، كما يبدو أن التقدير الإيراني يتمحور حول 3 أفكار أساسية:

أولا: الصوت في طهران بات عاليا ومسموعا بشكل جلي بأن الوقت قد حان لرسم خط واضح ومعلن لإسرائيل، وبأنه لا بد من رسمه بالدم وبشكل معلن، ويتبع ذلك مباشرة تحرك سياسي وازن لاحتواء إفرازات الميادين وضبط الإقليم عند مؤشر لا للحرب المفتوحة.

فهل يتناغم صانع القرار الإيراني مع ذلك ولو أن تقديره الإستراتيجي يقول العكس؟ لكنه قد يجد نفسه مكرها على الذهاب بهذا الاتجاه تحصينا لمصالحه العليا وجبهته الإقليمية التي هي أساس نفوذه.

ثانيا: ترى طهران أن أي حالة صدام مباشر وواسع وعنيف ومعلن مع إسرائيل الآن سيشكل مكسبا لا يقدر بثمن لإسرائيل-نتنياهو داخليا وإقليميا ودوليا، كون الإجماع الراهن إقليميا ودوليا ضد إسرائيل سينتقل بين ليلة وضحاها كي يصبح إجماعا ضد إيران.

ثالثا: سقف المعركة الراهنة بين إسرائيل وحزب الله وتطورها تدريجيا ولو ببطىء على الأقل من طرف حزب الله، فضلا عن تحول غزة إلى ما يشبه مستنقعا أمنيا للجيش الإسرائيلي، بالإضافة إلى السقف الذي تتحرك تحته حركة أنصار الله في اليمن والحلفاء في الساحة العراقية وأحيانا السورية يبدو كافيا في ضبط الحالة الإقليمية عند مؤشر لا حرب كاملة ولا سلام جزئي، هذه المراوحة بهذا الشكل تبدو فعلا إيرانيا مناسبا بالمعنى الإستراتيجي.

خلاصة

كل التحليلات والاستقراءات والتقديرات ترى أنه على إيران أن تتحرك في عملية عاجلة ضد إسرائيل لضبط أفعالها وجرأتها وذلك عبر فعل عسكري-أمني وازن.

ورغم أني أفهم وأتفهم هذا الكلام، وأتفق مع جزء حيوي منه، لكن قراءتي المعمقة للحالة الإيرانية توصلني إلى نتائج مختلفة قليلا، وهي أن إيران توازن بين أوضاعها داخليا ومكاسبها وخسائرها إقليميا والأهمية الإستراتيجية جدا لتموضعها في السياق الدولي المتغير ولو ببطىء.

وإن أي قرار بفتح مواجهة مباشرة ومعلنة مع إسرائيل لا يجب أن تكون وفق محدد الانتقام فقط، بل يجب وبالضرورة أن تخدم هذا المثلث داخليا وإقليميا ودوليا.

شاركها.
© 2024 خليجي 247. جميع الحقوق محفوظة.