غزة- كانت الساعة تقترب من الخامسة عصرا حين سمع دوي انفجار هائل في الأفق، لا شبكة اتصالات، ولا أجهزة لاسلكية، فقط الدخان هو دليله الوحيد. وفي زمن يشبه العصور القديمة، حين كان الناس يُشعلون النار أو يقرعون الطبول للتواصل فيما بينهم، خرج مؤمن المشهراوي بسيارة الإسعاف باحثا عن عمود الدخان.

ذلك اليوم، عرف مؤمن من لون الغبار أن القصف وقع في حيّ التفاح وسط غزة، قاد السيارة بسرعة، وفي طريقه كان يسأل المارة، حتى تمكّن من الاستدلال على المكان.

كان القصف لمركز إيواء داخل مدرسة، وحينما وصل بسيارة الإسعاف، وجد نفسه وسط مشهد لا يمكن وصفه إلا بمجزرة، أشلاء متناثرة، رؤوس بلا أجساد، أيادٍ وأرجل مفصولة، أطفال بلا أطراف، والناس يصرخون: إسعاف.

الناس، بأنفسهم، كانوا يحملون الجثث ويضعونها في سيارته، بينما الصدمة والفوضى والدماء تتناثر في كل زاوية.

يقول مؤمن “سيارة الإسعاف مصممة لحمل مصاب واحد، لكنني كنت أضع 4 أو 5، وأعود للمكان مرات ومرات، الأولوية للجرحى أولا، ثم الشهداء”.

ولم يكن ذلك أسوأ ما رآه المشهراوي، فبعد أيام، وصلهم نبأ قصف الاحتلال لسوق شارع النفق الذي كان من أهم أسواق غزة. أسرع مع زملائه ليجد أن السوق الذي كان يعج بالحياة، صار غارقا في الدم.

مبتورو أطراف، جثث مرمية على الأرصفة، ازدحام، فوضى، الناس يركضون، يحملون المصابين فوق أكتافهم، لأن سيارات الإسعاف قليلة.

مؤمن المشهراوي شاهد على مجازر الاحتلال ومنها مجزرة سوق “النفق” وسط غزة (الجزيرة)

بقماشة بالية

لا ينسى مؤمن مشهدا آخر، يسكن عقله للأبد، عائلة تجلس أمام منزلها، تتسامر، تطولها غارة من طائرة، فتختفي الضحكات إلى الأبد.

الجميع استشهدوا، وواحد فقط نجا، لكنه كان جريحا وقدماه تنزفان.

لم يكن مؤمن يملك أدوات إسعافية ليوقف النزيف بسبب ظروف الحرب، حيث يمنع الاحتلال إدخالها، فسارع لالتقاط قطعة قماش ملقاة على الأرض، وربط بها ساقي الجريح حتى أوقف النزيف، وأنقذ حياته.

وبعد شهور، وفي أحد شوارع غزة، التقى مؤمن بالشاب، نجا، لكنه الآن بلا قدمين.

خالد أبو نعمة كان شاهدا على الكثير من جرائم الاحتلال وخاصة مجزرة "المعمداني" التي أسفرت عن استشهاد نحو 500 شخص
خالد أبو نعمة شاهد على جرائم كثيرة منها مجزرة “المعمداني” التي أسفرت عن استشهاد نحو 500 فلسطيني (الجزيرة)

مجزرة المعمداني

رغم كثرة المشاهد التي تحتفظ بها ذاكرة المسعف خالد أبو نعمة، لكنّ مجزرة المستشفى المعمداني التي ارتكبها الاحتلال في 17 أكتوبر/تشرين الأول 2023، تبقى الأكثر بشاعة.

ليلتها، وصل خالد بسيارته إلى المستشفى الذي كان يؤوي آلاف النازحين. بدا المكان كأنه مشهد من أهوال القيامة: الناس تهرب وتصرخ، تحمل أبناءها قتلى بين ذراعيها، وأطفال محروقون، أشلاء متناثرة، جثث بالمئات.

في سيارته، كان خالد يحمل 5 شهداء، أو جرحى في كل مرة، حيث يبقى باب السيارة الخلفي مفتوحا لأنها ممتلئة بالجرحى.

وفي صباح اليوم التالي، عاد لإكمال المهمة، بحث تحت السيارات، وتحت الأنقاض، وجد جثثا محترقة، أشلاء صغيرة، وصمتا ثقيلا يلف المكان.

وأدت المجزرة التي تسبب بها قصف مباشر للنازحين الموجودين في باحات المستشفى إلى استشهاد أكثر من 500 مواطن، بحسب وزارة الصحة الفلسطينية.

إصابة في الرقبة

يدرك خالد خطورة عمله، الذي قد يكلفه حياته في أي لحظة، وهذا ما حدث مع العديد من زملائه الذين قتلهم جيش الاحتلال، ويذكر منهم: طارق عاشور، ومحمود أبو مشايخ، وأحمد عبد الرحمن، وهاني الجعفراوي (كان مديرا لدائرة الإسعاف)، وأسامة البلي، وخالد عابد، ومحمد المطوق، وإسماعيل الدحدوح.

وفي أحد أيام ديسمبر/كانون الأول 2023، كاد خالد أن يتحول إلى ضحية يحملها زملاؤه بسياراتهم، حيث أُصيب برصاصة في رقبته وهو يحاول إنقاذ زملائه الذين حاصرتهم قوات الاحتلال بينما كانوا في طريقهم لنقل كمية من الأدوية.

كان ينادي كي يسعفوه، لكن الرصاص لم يتوقف، فنهض.. وتحامل على نفسه، وركض، والدم يتدفق، والرصاص يتطاير، ونجا بأعجوبة. وبعدها بعدة أشهر، نجا مرة أخرى حينما أطلقت طائرة صاروخا خلف سيارته مباشرة.

ورغم كل هذه المخاطر، لا يحصل خالد وزملاؤه على رواتب منذ بداية الحرب، فقط مكافآت بسيطة كل بضعة أشهر، نظرا لانعدام مصادر الدخل لدى حكومة غزة.

في مشهد آخر لا ينساه، خلال الأيام الأولى للحرب، توجّه المسعف خالد لمنطقة شهدت غارة إسرائيلية، ولم يجد جرحى، ففضل البقاء قليلا.

بجوار المكان كانت أسرة تقطن في خيمة، وفجأة سُمع صراخ، وأخرجوا منها طفلة صغيرة عمرها 3 سنوات، كانت نائمة لكن شظية اخترقت جسدها الصغير وماتت في صمت.

يقول خالد “حين رأيتها.. تخيلت أنها طفلتي”.

تعرضت سيارات الإسعاف للاستهداف من قوات الاحتلال خلال الحرب واستشهد العديد من المسعفين
سيارة إسعاف تعرضت لاستهداف مباشر من قوات الاحتلال خلال الحرب (الجزيرة)

بسيطة لكن قاتلة

ما أصعب أن تنقذ إنسانا وتنقله للمستشفى، لكنك تعلم جيدا أنه لن يعيش رغم أن جراحه ليست خطيرة. هذا ما يقول المسعف “محمد” وهو اسم مستعار، فضل مستخدمه عدم الكشف عن هويته الحقيقية.

كان محمد وزملاؤه يبذلون جهودا جبارة في انتشال الجرحى من أماكن القصف ومن تحت الأنقاض، وينقلونهم للمشافي، لكن العلاج كان مفقودا جراء استهداف الاحتلال الإسرائيلي للمنظومة الصحية في شمال قطاع غزة.

وفي المستشفى المعمداني، كان محمد يترك المصابين على الأرض، فلا أسرّة كافية ولا علاج، ويعود في الصباح ليجدهم ممددين داخل أكفان بيضاء أمام كنيسة المستشفى.

لم تكن الإصابات خطيرة، بعضها شظية صغيرة في البطن أو الصدر، لكنها تتسبب في نزيف قاتل، في ظل غياب غرف العمليات وأجهزة التصوير المقطعية، وأطباء الجراحة.

وفي ظل النقص الكبير في الطواقم الطبية كان محمد وزملاؤه يعملون كأطباء، يخيطون الجروح للأطفال دون تخدير، ويضعون الجبائر للمصابين بالكسور بدون تصويرها بالأشعة لمعرفة طبيعة التهتك.

مجازر العائلات

في حادثة لا تكاد تفارق خياله، توجّه محمد لإنقاذ أسرة تعرضت شقتها للقصف، لكنه فوجئ بأن الشقة خالية.

وبعد دقائق من البحث، اكتشف أن قوة الانفجار قذفت بالعائلة المكونة من أم وأبنائها الثلاثة إلى سطح منزل مجاور، اشتعلت النار في أجسادهم، ولم ينجُ أحد.

وفي حادثة أخرى، وصلت نداءات استغاثة من مدرسة تؤوي نازحين تعرضت للقصف، أحد الشبان كان عالقا تحت حائط. ولم يكن لدى محمد وزملائه، وعددهم 6 أشخاص، أي أدوات، فبدؤوا يحفرون بأيديهم العارية.

فجأة، جاءهم إنذار بأن المدرسة ستقصف مجددا خلال 3 دقائق، ورغم ذلك رفضوا المغادرة، استمروا في الحفر، وسحبوا الشاب في اللحظة الأخيرة، وبعد دقيقتين فقط من خروجهم، سقط الصاروخ.

أكثر ما لم يستطع محمد اعتياده هو مجازر العائلات، أُسر كاملة تختفي. فمرة، وجدوا طفلا بعمر 3 سنوات مشوّه الوجه، نجا وحده من مجزرة قضت على 3 عائلات في الشارع نفسه، ولم يتعرف عليه أحد من أقاربه، فكفلته ممرضة.

يختم محمد كلامه بنبرة لا يخفت ألمها بعد سنة ونصف من ملازمة الفظائع “نحن لا ننسى.. ذاكرة المسعف مثقلة بكل ما رآه”.

شاركها.
© 2025 خليجي 247. جميع الحقوق محفوظة.