في أقصى شرق القارة الأفريقية، وفي واحد من أهم مواقعها الإستراتيجية، يقع الصومال رابطا بين الشرق الأوسط وأفريقيا، والمحيط الهندي ومضيق باب المندب المؤدي إلى البحر الأحمر.

في خضم استقلال الدول الأفريقية إبَّان منتصف القرن العشرين، كان يُنظر إلى الصومال بوصفه رمزا للوحدة والطموح في منطقة القرن الأفريقي، لكن في غضون عقود، بات ساحة تشرذم وفقر، وعُقدة لم تُحَل إلى يومنا هذا، لا سيَّما في السنوات الأخيرة، التي دخلت فيها البلاد صراعا معقدا تتنافس فيها رؤى ثلاث تدفع بها قوى إقليمية مختلفة.

واليوم، بات مستقبل الصومال مرهونا بمدى قدرة هذه المشاريع الثلاثة على تنفيذ رؤيتها: الفيدرالية التي تدعمها الحكومة المركزية رغم التحديات الأمنية والسياسية، والانفصال الذي يسعى إقليم أرض الصومال عن طريقه لاكتساب الشرعية الدولية، و”الداعشية السياسية” التي تريد فرض سيطرتها عبر العنف والترهيب.

الفيدرالية: مشروع الحكومة المركزية وأغلبية الشعب

الرؤية الأولى هي مشروع الفيدرالية، الذي تدعمه الحكومة المركزية وباقي الأقاليم ومعظم الشعب الصومالي، رغم أن إقليم أرض الصومال يرى فيه تحديا لطموحاته بالاستقلال الكامل ولمصالحه السياسية والاقتصادية.

ويسعى هذا المشروع إلى إعادة بناء الدولة عبر هيكل فيدرالي من أجل بناء توازن بين السلطات المركزية والولايات المحلية، وتحقيق الاستقرار السياسي والرخاء الاجتماعي دون المساس بوحدة الصومال.

خريطة أرض الصومال (الجزيرة)

ويواجه النظام الفيدرالي تحديات كبيرة ومعقدة، أبرزها انعدام الثقة بين الأقاليم والحكومة الفيدرالية، الناتج عن غياب آليات فعالة تضمن توزيعا عادلا للسلطات الإدارية والموارد الاقتصادية. ولذلك يرى الخبراء أن تعزيز الحوار الوطني المستمر بين الأطراف المختلفة داخل الصومال، وإشراك الجميع في عملية صنع القرار، يُعَد خطوة حاسمة نحو بناء الثقة والشرعية المطلوبة لترسيخ وحدة الصومال ونجاح دولته.

من جهة أخرى، يُمثل عدم الاستقرار السياسي عائقا أساسيا أمام تدشين النظام الفيدرالي. وإحدى وسائل معالجة هذا الأمر هي عبر إنشاء نظام سياسي شامل يعتمد انتخابات شفافة ونزيهة، وتعزيز دور القضاء المستقل لضمان احترام القانون وحماية حقوق الجميع.

وفي الوقت نفسه، الحرص على تقوية المؤسسات الحكومية لضمان قدرتها على إدارة الدولة بكفاءة، وهو ما يمكن تحقيقه بواسطة برامج تدريب وتأهيل العاملين بالدولة، إلى جانب وضع أنظمة رقابة فعالة لضمان الشفافية والمُساءلة.

أما التحدي الأمني فلا يقل أهمية، إذ تمثل الجماعات المسلحة التي تصنفها الولايات المتحدة الأميركية كحركات إرهابية، مثل حركة الشباب المجاهدين وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، تهديدا للوحدة الوطنية والاستقرار بحسب ما تراه الحكومة المركزية، وهو ما يحتّم عليها اعتماد إستراتيجية أمنية شاملة لتقوية الجيش الوطني، بالإضافة إلى الاستثمار في التعليم والتنمية الاقتصادية للحد من انتشار الحواضن الاجتماعية لهذه الجماعات.

هناك أيضا رغبة لدى بعض الأقاليم والقيادات السياسية في العودة إلى النظام المركزي بدلا من الفيدرالية. ويمكن مواجهة هذا التوجه، غير المناسب للصومال، بتوضيح فوائد النظام الفيدرالي، خاصة ما يتعلق بمنح الأقاليم استقلالية في الإدارة والتنمية وتلبية حاجات سكانها، مع ضمان الحفاظ على وحدة الدولة في الوقت نفسه.

ومن المهم ترسيخ مبدأ فصل السلطات، الذي يؤدي غيابه إلى تداخل الصلاحيات بين الجهات الحكومية المختلفة، وهو أمر يمكن إصلاحه عبر تعديلات دستورية وقانونية واضحة.

وأخيرا، يمثل ضعف الموارد المالية وغياب الشفافية في الصومال عائقا كبيرا أمام تحقيق التنمية في إطار النظام الفيدرالي. ويمكن تحسين الوضع بتطوير القطاعات الاقتصادية، مثل الزراعة والثروة السمكية، واستقطاب الاستثمارات الأجنبية، مع تعزيز الشفافية في إدارة الموارد العامة لضمان استخدامها بفعالية.

الانفصاليون والتنظيمات المسلحة: التحديان الأكبر

على الجهة الأخرى، يوجد مشروع الانفصال عن الصومال، الذي تقوده حكومة إقليم أرض الصومال في شمال البلاد. فمنذ إعلان استقلال الإقليم من جانب واحد بعد انهيار الحكومة المركزية عام 1991، زادت معاناة المجتمع في إقليم أرض الصومال. وسعت قيادة الإقليم إلى نيل الشرعية الدولية وإقامة دولة مستقلة، لكنها لم تنجح بالكامل حتى اليوم.

ويرى هذا المشروع أن الانفصال هو الطريق الوحيد للخروج من ما يصفه بـ “دوامة الفوضى” التي يعاني منها الصومال، معتمدا على الاستقرار النسبي الذي حققه الإقليم وعلاقاته الجيدة بعدد من الدول، ما أدى إلى تحسُّن الأمن وإنشاء مؤسسات حكومية محلية.

ورغم ذلك، فإن إعلان محافظات “سول” و”سناغ” أقاليمَ مستقلة عن حكومة إقليم أرض الصومال وانضمامها إلى الحكومة الفيدرالية في مقديشو، بعد صراع استمر ما يقرب من عام، قد وجَّه ضربة قوية لفكرة الانفصال باعتبارها السبيل الوحيد للنجاة، مما أضعف قضية إقليم أرض الصومال.

كما أن فكرة الانفصال بحد ذاتها تُعمِّق الانقسامات القبلية والإقليمية، وهو أمر يرفضه معظم الصوماليين نظرا للمخاوف من تمدُّد النزعة الانفصالية، واتجاه أقاليم أخرى إلى محاكاة إقليم أرض الصومال.

تصميم خاص خريطة الصومال
خريطة الصومال (الجزيرة)

ثم هناك ما يمكن تسميته بـ “مشروع الداعشية” الذي تتبنّاه حركات جهادية مثل الشباب المجاهدين وتنظيم الدولة الإسلامية، ورغم خطابها العالمي القائم على رؤية أممية تهدف إلى إقامة “دولة إسلامية” عابرة للحدود الوطنية، فإنها في الحقيقة تُجسِّد مصالح محلية مُحدَّدة، مدعومة بأجندة لن يستفيد منها أغلب الصوماليين.

وبحسب العديد من التحليلات الاجتماعية والاقتصادية، فإنه هذه الحركات تستغل ضعف المؤسسات، وحالة التهميش والفقر، لتجنيد الشباب الصوماليين المُهمَّشين والمنقطعين عن التعليم، كما تستغل تسلُّل الأجانب الفارّين من مناطق النزاعات التي هدأت فيها الحرب نتيجة عمليات “مكافحة الإرهاب”، مثل أفغانستان والعراق وباكستان واليمن وسوريا.

وتواصل الجماعات المسلحة حربها على الحكومة المركزية والأقاليم الفيدرالية والقوى الدولية من خلال الهجمات المنظمة التي تسهدف المدنيين في كثير من الأحيان. ولا يقدم مشروع هذه الجماعات للصومال سوى تدمير للمؤسسات القائمة. وأثرذلك يمكن مشاهدته عيانا من خلال تعمّق حالة الفوضى وتقويض آمال الصوماليين ببناء دولة حديثة ومستقرة.

ثلاث قوى ومواجهة مصيرية

يتجاوز الصراع بين هذه المشاريع الثلاثة كونه صراعا على السلطة، إذ إنه مواجهة شاملة بين رؤى متباينة لمستقبل الصومال. فالحكومة المركزية تُكافح لإثبات سيادتها عبر مواجهة الحركات الانفصالية والحركات المسلحة التي تمارس القتل العشوائي وترهيب الناس، كما وتكافح الحكومة لبناء المؤسسات.

وفي المقابل، يواصل إقليم أرض الصومال تسويق قضيته عالميا عبر جماعات الضغط لنيل الاعتراف الدولي رغم محدودية تأثيرها حتى الآن، والتعامل مع بعض الدول صاحبة المصالح المُعارضة لمقديشو.

تصميم خاص خريطة جزر شاغوس المحيط الهندي موريشيوس مدغشقر الصومال سريلانكا
(الجزيرة)

أما الحركات المسلحة فلا تزال تسعى لفرض سيطرتها في وسط وشرق وجنوب البلاد عبر العنف والإرهاب، مما يزيد من تعقيد الوضع الأمني، ويقوض جهود الاستقرار، ويُعزز من حالة الفوضى.

في قلب هذه الصراعات، تقف القوى الدولية والإقليمية لاعبا أساسيا، ففي حين تدعم مجموعة من الدول الحكومة المركزية ماليا وعسكريا ودبلوماسيا، تسعى دول أخرى ذات مصالح متناقضة مع الحكومة المركزية إلى تعزيز نفوذها وحماية مصالحها السياسية والاقتصادية في المنطقة على حساب مقديشو.

إن الصومال يقف اليوم عند منعطف حاسم في تاريخه، فإما أن ينجح مشروع الفيدرالية في مواجهة التحديات الأمنية والسياسية، وتحقيق الاستقرار عبر إصلاح المؤسسات، وتعزيز فصل السلطات والحكم الرشيد، وبناء الثقة بين الحكومة المركزية والأقاليم، وتوزيع الثروات العادل لضمان التنمية المتوازنة، وإما أن يستمر التمزق الداخلي، مما يؤدي إلى تفاقم الأزمات السياسية والاجتماعية، ويُضعف وحدة الدولة ويزيد من معاناة المواطنين.

ويترافق هذا المنعطف مع تصاعد طموحات إقليم أرض الصومال الانفصالية، وسعيها لتحقيق الشرعية الدولية بدافع تعزيز استقلالها السياسي والاقتصادي، وتدخلات القوى الإقليمية مثل إثيوبيا، التي تُعرقل جهود التوافق الوطني، بالإضافة إلى استمرار تهديد الحركات المسلحة.

إن المستقبل لا يُكتب بقوة السلاح وحده، بل بقوة الفكرة أيضا، والصومال بحاجة إلى فكرة جديدة وجهود عديدة تُعيد بناء الدولة والمجتمع، عبر التركيز على التعليم، وإصلاح المؤسسات، ودعم المصالحة الوطنية على أسس الشراكة والتعددية، لا على الهيمنة والصراع.

وكما قيل: “الأمم لا تنهض إلا عندما تجد الرواية التي تلهم شعبها”، فالصومال بحاجة ماسة إلى سردية موحدة ومشروع وطني جامع يعكس رؤية وهوية مشتركة، تجمع طموحات الفيدرالية وتواجه الانفصالية والتطرف. بدون هذه الرؤية، سيبقى البلد عالقا في صراعاته، يتأرجح بين الماضي المظلم والمستقبل المجهول.

شاركها.
© 2025 خليجي 247. جميع الحقوق محفوظة.